Wednesday, April 22, 2015

كيفية نجاة المسيح من المؤامرة

وإذا كانت الأدلة قد شهدت للمسيح بالنجاة، وأن مؤامرة الأشرار لن تلحق به الأذى، فنجا المسيح من الموت على الصليب الذي أراده له أعداؤه. فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: كيف نجا المسيح ؟ وكما أسلفنا فإن القرآن والسنة لا يذكران كيفية نجاة المسيح، وكل ما ذكره القرآن أن الله شبه عليهم غير المسيح، فأخذوه وهم ليس لهم به علم يقيني.
لذا نعود إلى قصة الأناجيل وهي تتحدث عن الصلب المزعوم، لنرى كيف نجا المسيح ؛ ولابد لنا هنا من قراءة ما بين السطور الإنجيلية، لتلمس الحقيقة التي يصرح الإنجيليون بخلافها.
وبداية نذكر أنه لا يرى المسلمون أي ضير في القول بالكثير من التفصيلات التي أوردتها الأناجيل، وإن كنا نشك في حصول بعضها، لكن نقبلها تنزلاً مع محاورينا من النصارى، ومنها: 
1) أن المسيح خرج إلى البستان برفقة تلاميذه، وأنه أخبرهم بأنه سيتعرض لمؤامرة من أحد التلاميذ مع اليهود الذين يريدون صلبه. 2) أن المسيح دعا في تلك الليلة طويلاً، وبإلحاح كبير طالباً من الله أن يصرف عنه كأس الموت. 3) أن المسيح استسلم لقضاء الله وقدره، فقال: " ليس كما أريد أنه بل كما تريد أنت " (متى 26/39 ) وقال: " فلتكن مشيئتك ( متى 26/41 ). 4) المسيح يصلي، والتلاميذ نيام، ويحاول إيقاظهم مرة بعد مرة. 5) وصل يهوذا الأسخريوطي الخائن، ومعه الجند، يحملون مشاعل وسيوفاً وعصياً، للقبض على المسيح، وقد جعل يهوذا علامة للجند أن يقبل المسيح. 6) وصلت الجموع؛ فخرج إليهم المسيح، وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري. فقال المسيح " أنا هو " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6 ).7) حاول بطرس الدفاع، لكنه كان أعجز من ذلك، فهرب وجميع التلاميذ. 8) اقتيد المأخوذ ( وهو غير المسيح) للمحاكمة عند رئيس الكهنة، ثم بيلاطس، وبطرس يتابعه في بعض ذلك، وقد أنكره تلك الليلة ثلاث مرات. 9) في المحاكمة سأل رئيس الكهنة، واستحلف المأخوذ إن كان هو المسيح، فأجابه: "أنت قلت، وأيضاً أقول لكم: من الآن، تبصرون ابن الإنسان جالساً يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ). 10) حكمت المحكمة على المأخوذ بالقتل، واقتيد إلى بلاط بيلاطس الذي سأله: إن كان هو ملك اليهود، فأجابه: " أنت تقول " ثم لم يجبه بكلمة واحدة، حتى تعجب بيلاطس منه. 11) لم يجد الوالي للمأخوذ علة يستحق عليها القتل، فأراد أن يطلقه، لكن الجموع أصرت على صلبه، وإطلاق باراباس، فأعلن براءته من دم هذا البار، وأسلمه لهم. 12) اقتيد المأخوذ إلى موضع الصلب، وصلب بجوار لصين. 13) صرخ على الصليب، فسقوه خلاً، ثم أسلم الروح.
ويفترق المسلمون عن الأناجيل في مسألة مهمة، وهي من هو المأخوذ من ساحة القبض على المسيح؟ فيراه المسلمون يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الخائن، ويلزمنا إقامة الدليل على ذلك، إذ هي موضع النزاع، وقد كنا قد أقمنا الأدلة على ذلك من سفر المزامير.
ولتصور القول بأن يهوذا هو المأخوذ، وأنه حصل التباس عند آخذيه، فإنا نتصور الجموع الكثيرة والتي تقارب الألف وهي تسير، تحمل المشاعل والسيوف والعصي، وتتكون من جنود وغوغاء يتقدمهم يهوذا.
ولما وصل الجمع إلى المسيح كان التلاميذ نياماً، وقد حاول المسيح إيقاظهم مراراً فلم يستطع، برغم أن الموقف كان صعباً، فقد كانت عيونهم ثقيلة، واقتربت الجموع من المسيح يتقدمهم يهوذا، والتلاميذ نيام " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6).
وهنا نتوقف ملياً، لنقرأ ما غفلت عن ذكره السطور. فما فائدة سقوطهم على الأرض ؟ وما الذي أسقطهم ؟ وماذا أفاد المسيحَ سقوطهم، إذا كانوا سيقبضون عليه بعدها ؛ وَلم لَمْ يتكرر السقوط عندما أرادوا أخذه بعدها ؟
ولنحاول أكثر أن نتصور ما حدث في تلك اللحظة، فقد اقترب يهوذا لتقبيل المسيح كعلامة للجند على أنه المطلوب، وفي تلك اللحظة اقترب الجند. حملة المشاعل والسيوف. للقبض على المسيح، فتدخلت قدرة الله العظيم – كما ذكر يوحنا-، فسقطوا على الأرض، بعد أن رجعوا للوراء. ولك أن تتخيل ما حصل، من هرج، وتدافع، من جراء سقوط مقدمة هذه الجموع التي تحمل المشاعل، والتي هي فقط تنير لها ظلمة الليل البهيم.
بعد ذلك الاضطراب والفوضى قام الساقطون من الأرض وأفاقوا من ذهولهم لما حصل لهم، ورأوا يهوذا وحده مبهوتاً أصابه الذهول، وقد رأى المسيح يرفع للسماء، وقد ألقى الله عليه الكثير من شبه المسيح، ولكن من سيتوقع أن هذا المذهول هو يهوذا، ومن الذي يعرفه وقتذاك؟
فكانت لحظةُ وقوع الجند: لحظة الخلاص كما وصفتها المزامير " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه …. هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا " ( مزمور 20/8 ).
وفي مزمور آخر: " أما أنت فتبارك، قاموا وخزوا ( مزمور 109/28 ).
وفي مزمور آخر تسجل تلك اللحظة الخالدة: "حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء " ( مزمور 56/9 ) و "ليرتد إلى خلف، ويخجل المشتهون لي شراً " ( مزمور 70/2 ). " عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي، ومضايقي وأعدائي عثروا وسقطواً" ( مزمور 27/2 ) وغيرها.
بعدها حُمل يهوذا إلى المحاكمة وإلى ديوان بيلاطس، والشك في حقيقة شخصه يلاحقه في كل هذه الخطوات، فقد شك فيه رئيس الكهنة، وكانت إجاباته لبيلاطس وهيرودس تنبئ عن الذهول الذي أصابه، وعن عجزه عن بيان الحقيقة، التي لن يقنع أحداً إن ذكرها، فكان يجيبهم: " أنت تقول" ( متى 27/11 ).
ولما اجتمع في النهار مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة، " وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون: إني أنا هو ". ( يوحنا 22/66 - 70 ).
ولا يفسر هذه الإجابات الغريبة، بل وتلك الأسئلة الغريبة من أناس كانوا يرون المسيح في كل يوم، لا يفسره إلا أن نقول بأن المأخوذ هو غير المسيح، وإن أشبهه، وهذا الشبه حير رؤساء الكهنة في حقيقة المأخوذ فحاولوا استجلاء الحقيقة بسؤال المأخوذ، فلم ينكر ولم يثبت.
وأما يهوذا فقد عرف أن لا فائدة من إنكاره، إذ لن يصدقه أحد، ولربما ولفرط ندمه قد استسلم لرداه، ورضي بعقوبة الله له، أن يصلب عن المسيح، لعله بذلك أن يفديه، لذلك تكرر سكوته.
وهذا الموقف ليس بعيداً عمن ذكرت الأناجيل أنه لفرط ندمه خنق نفسه، وانتحر.
لقد تحققت فيه نبوءات المزامير " وإذا حوكم فليخرج مذنباً... ووظيفته ليأخذها آخر " (المزمور 109/6 - 8 )، لقد أتى ليخطف المسيح، فلم يستطع.. "حينئذ رددت الذي لم أخطفه " ( المزمور 69/4 ).
وقد يشكل هنا أن متى ذكر أن يهوذا مات مخنوقاً ( انظر متى 27/2 - 5 )، ويكفي في دفعه أن نتذكر ما ذكره سفر أعمال الرسل عن موته حين سقوطه وخروج أحشائه. (انظر أعمال 1/16 - 20 )، وسبب وقوع الإنجيليين في هذا التناقض اختفاء يهوذا، فاخترع كل من متى ولوقا نهاية ليهوذا تليق بجريمته، فهذا التناقض بين الروايتين الإنجيليتين، مشعر بوجود نهاية حقيقية، خفيت على الكاتبين ودفعتهما لاختلاق روايتيهما.
والقول بصلب يهوذا بدلاً عن المسيح قول قديم: فكما ذكره برنابا في إنجيله، ذكرته فرق مسيحية قديمة قبل الإسلام، منها: السيرنثيون والكربوكرانيون.
وقد يعترض معترض بذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد وقوع الجموع، فقد ذكر الإنجيليون أن بطرس حمل السيف، وضرب أذن العبد فأمره المسيح برد السيف، لأن من ضرب بالسيف يؤخذ به، فهرب بطرس والتلاميذ (انظر يوحنا 18/10 - 19 ) وهذه القصة يجعلها يوحنا بعد حادثة تراجع الجند، ووقوعهم على الأرض.
ومثله ذكر يوحنا أيضاً بعد سقطتهم، أن المسيح سألهم: " من تريدون ؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو … ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه " ( يوحنا 18/7 - 12 ).
كما قد يعترض معترض بذكر ما انفرد به يوحنا، وهو حضور أم المسيح إلى ساحة الصلب، فيقول: لا يصح أن يخفى عليها حقيقة المصلوب، وأن ليس ابنها.
لكن أمثال هذه النصوص التي لن يستطيع أحد أن يثبت عصمتها لتناقضها الذي بيناه، ولا تنهض في الرد على نبوءات المزامير والأناجيل، وإلحاقها بتناقضات الأناجيل وأخطائها أَوْلَى.
ولعلنا نتذكر أن القبض على يهوذا كان ليلاً، فيكتنفه ما يكتنف الظلام من ستر، وخفاؤه فيما بعد ذلك، بسبب ظروف محاكمته وصلبه، وقد رأينا منهم شكاً في شخصية المأخوذ، فدل ذلك كله على أن في شخصية المأخوذ ما أشكل عليهم، وهو ولا ريب يشكل على من رآه مصلوباً عرياناً. ثم يراه قد ألبس في محاكمة بيلاطس وهيرودس ملابس غريبة فتغير شكله، ثم لما صلب كان عرياناً، وصلب في بستان معزول، ولم يمكث على الصليب فترة طويلة....
يقول برنابا، وقد كشف له المسيح عن الحقيقة بعد هلاك يهوذا: " يا معلم: إذا كان الله رحيماً، فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً؟ ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت.. أجاب يسوع: … فلمّا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب، لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله " ( برنابا 220/ 14-20 ).
وقد كان، فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بالحقيقة التي غابت عن النصارى طويلاً، وصدق الله وهو يقول: { وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وما قتلوه وما صلبوه ولـكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ مّنه ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً  بل رّفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً حكيماً } (النساء: 157-158).

قصة الصلب عند الأمم الوثنية

وبولس عندما ادعى صلب المسيح فداء للخطيئة لم يكن يتحدث من تأليفه وإبداعه، فإنه إنما يكرر عقيدة قديمة، تناقلتها الوثنيات قبل المسيح بزمن طويل، وقد نسج الإنجيليون أحداث صلب المسيح، على نحو ما قرره بولس، وعلى صورة ما ورد عن الأمم الوثنية القديمة، حتى أضحت قصة الصلب في الأناجيل قصة منحولة من عقائد الأمم الوثنية، ولعل أوضحها شبهاً بقصة المسيح أسطورة إله بابل " بعل " فقد كشفت لوحتان أثريتان تعودان للقرن التاسع قبل الميلاد عن قصة تشابه تماماً ما قاله النصارى في صلب المسيح ومحاكمته، ونقل "فندلاي" وغيرِه المقارنة بين ما قيل عن بعل قبل المسيحية وما قيل عن المسيح في المسيحية.ويوضح ذلك الجدول التالي:
محاكمة عيسى عليه السلاممحاكمة بعل
1 - أخذ عيسى أسيراً.
2 - وكذلك حوكم عيسى.
3 - اعتُدي على عيسى بعد المحاكمة.
4 - اقتيد عيسى لصلبه على الجبل.
5 - وكان مع عيسى قاتل اسمه: "باراباس" محكوم عليه بالإعدام، ورَشح بيلاطس عيسى ليعفو عنه كالعادة كل عام. ولكن اليهود طلبوا العفو عن "باراباس" وإعدام عيسى.
6 - عقب تنفيذ الحكم على عيسى زلزلت الأرض وغامت السماء.
7 - وحرس الجنود مقبرة عيسى حتى لا يسرق حواريوه جثمانه.
8 - مريم المجدلية، ومريم أخرى جلستا عند مقبرة عيسى تنتحبان عليه.
9 - قام عيسى من مقبرته في يوم أحد، وفي مطلع الربيع أيضاً، وصعد إلى السماء.
1 – أخذ بعل أسيراً.
2 – حوكم بعل علناً.
3 – جرح بعل بعد المحاكمة.
4 – اقتيد بعل لتنفيذ الحكم على الجبل.
5 – كان مع بعل مذنب حكم عليه بالإعدام وجرت العادة أن يعفى كل عام عن شخص حكم عليه بالموت. وقد طلب الشعب إعدام بعل، والعفو عن المذنب الآخر.
6 – بعد تنفيذ الحكم على بعل عم الظلام وانطلق الرعد، واضطرب الناس.
7 – حُرس بعل في قبره حتى لايسرق أتباعه جثمانه
8 – الأمهات جلست حول مقبرة بعل يبكينه.
9 – قام بعل من الموت وعاد للحياة مع مطلع الربيع وصعد إلى السماء.
وقد انتقلت هذه الأسطورة البابلية، عن طريق الأسرى اليهود الذين عادوا من بابل.
وتتشابه كثير من تفاصيل قصة الصلب مع تفاصيل واردة في قصص وثينة مشابهة. فقد ذكر متى أحداثاً غريبة عدة، صاحبت موت المسيح حيث يقول: " وفي الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض، إلى الساعة التاسعة... وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت... " ( متى 27/45 - 53 ).
وهذا نقله النصارى من الوثنيات القديمة، فقد نقل العلامة التنير عن عدد من المؤرخين إجماعهم على انتشار هذه الغرائب حال موت المخلصين لهذه الأمم. من ذلك: أن الهنود يقولون: " لما مات "كرشنا" مخلصهم على الصليب، حدثت في الكون مصائب جمة، وعلامات متنوعة، وأحاطت بالقمر دائرة سوداء، وأظلمت الشمس عند منتصف النهار، وأمطرت السماء ناراً ورماداً..... "
ويقول عباد بروسيوس " إنه لما صلب على جبل قوقاس، اهتزت الكائنات، وزلزلت الأرض ".
"والاعتقاد بحدوث أحداث سماوية عظيمة عند موت أحد العظماء أو ولادته، معروف عند الرومان واليونان.
كما ينقل المؤرخ "كنون فرار" في كتابه "حياة المسيح" وينقل جيبون في تاريخه أن عدداً من الشعراء والمؤرخين الوثنيين كان يقول :" لما قتل المخلص اسكولا بيوس، أظلمت الشمس، واختبأت الطيور في أوكارها... لأن شافي أمراضهم وأوجاعهم فارق هذه الدنيا ".
والقول بظلمة الشمس عند موت أحد المخلصين قيل عند مقتل هيركلوس وبيوس وكوتز لكوتل وكيبير ينوس إله الرومان، وعليه، فهو أسطورة قديمة تداولتها الأمم، ونقلها أصحاب الأناجيل من تلك الوثنيات.
وقد كان عباد الشمس يقدمون الضحايا لها، خاصة عند حلول الكسوف، فإذا زال الكسوف اعتقدوا أنه بسبب فداء أحد زعمائهم، حيث خلصهم وحمل عنهم العذاب، ومنه أخذ متى قوله: "ومن الساعة السادسة، كانت ظلمة على الأرض إلى الساعة التاسعة " ( متى 27/45 ).
ومن أوجه الشبه بين الوثنيات القديمة والنصرانية القول بقيامة الآلهة من الأموات، فقد أجمعت الأناجيل على قيامة عيسى من الموت، ولكن هذا قد سبقهم إليه الهنود، حيث قالوا في كرشنا: "هوذا كرشنا صاعد إلى وطنه في السماوات".
وكذا يقول عُبّاد بوذا بأنه حزن عليه بعد موته أهل السماوات والأرض "حتى إن مهاويو (الإله العظيم ) حزن ونادى: قم أيها المحب المقدس، فقام كام ( أي بوذا ) حياً، وبُدلت الأحزان والأتراح بالأفراح، وهاجت السماء، ونادت فرِحة: عاد الإله الذي ظُن أنه مات وفُقد... "، ومثله يعتقده الصينيون في إلههم (لأوكيون)، والمجوس في (زورستر).
ويقول عابدو (سكولا بيوس) في القصيدة التي حكت عن حياته: " أيها الطفل القادر على شفاء الأمم في السنين القادمة حينما يهب مَن في القبور.... وأنت من المسكن المظلم ستقوم ظافراً وتصير إلهاً ".
وعن تموز يقول البابليون: " ثقوا أيها القديسون برجوع إلهكم، واتكلوا على ربكم الذي قام من الأموات ".
ومثل هذا الاعتقاد، سرى في كثير من الوثنيات قبل المسيحية فقد قيل بقيام أوزوريس، وحورس، "ومتراس" وباخوس، وهرقل، وكوتز لكوتل، ويلدور، وغيرهم، فكل هؤلاء قال عُبّادهم بقيامتهم من الموت.
ولعل أهم هؤلاء أوزوريس معبود المصريين القريب من مهد المسيحية، وقد انتشرت أسطورته في القرن الثالث قبل الميلاد. ويقول المؤرخ مهامي: " إن محور التعليم الديني عند الوثنيين في مصر في القرون الخالية هو الإيمان بقيام الإله ".
صدق فيهم قول الله عز وجل { ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } (التوبة: 30).

بولس واختلاق قصة صلب المسيح

ويبقى السؤال موجهاً للمسلمين المنكرين لصلب المسيح من أين وردت على النصارى مقالة صلب المسيح؛ وهل خفي عليهم حقيقة المصلوب؟ أم خفي عليهم وقت الصلب، ثم كُشف لهم بعد ذلك لكنهم استمرؤوا الباطل ؟ 
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الأناجيل الأربعة مخطوطات قديمة، كتبها أشخاص في أوقات مختلفة، حسب ما تناهى إلى مسامعهم من الروايات الشفهية المتناقلة، وهم لم يَّدعوا لها الإلهام ولا القدسية، فكتب كلُُّ حسب ما سمع، مناقضاً الآخرين، أو موافقاً لهم. 
ونجاة المسيح ورفعه أمر خفِي على الكثيرين من معاصري المسيح، فظنوا أن المصلوب هو المسيح، إذ لم يشاهد معجزة رفع المسيح إلا يهوذا الخائن، عندما أخذوه في لحظة التسليم، وقد شبه عليهم وهم في شك منه كما تبين لنا قبلُ. 
ويرى المحققون أن فكرة صلب المسيح هي بعض مبتدعات بولس، الذي وجد في قصة الصلب القلب النابض للمسيحية الجديدة التي أنشأها، والتي يؤكد عليها بولس في رسائله ومنها قوله: "لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً " ( كورنثوس (1) 2/2 ).
وقد امتلأت رسائله بالتأكيد على صلب المسيح، مما حدا بأرنست دي بوش الألماني للقول في كتابه: " الإسلام: أي المسيحية الحقة ": " إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومَن شابهه، من الذين لم يروا المسيح، وليست من أصول النصرانية الحقة". 
وقد استغل بولس الاضطراب الذي حصل في حقيقة ما جرى للمسيح، بين قائل بأنه صلب، أو أن المصلوب غيره، أو سوى ذلك مما أشيع في تلك الأيام.. ووظفه، وجعله قاعدة لضلالته المسماة "الفداء". 
ونعود لبولس لنتساءل عن موقف النصارى الأوائل من دعواه صلب المسيح، التي كتبها الإنجيليون بعد وفاته. 
وبالتأمل في رسائل بولس التي أكدت صلب المسيح وأهمية هذا الحدث كمعتقد، نجد في طياتها موقف الحواريين والأتباع الأوائل الرافض لبدع بولس ومن ضمنها ولا ريب عقيدة الصلب.
فيرى أحمد عبد الوهاب هذا الموقف في قول بولس وشكواه في رسالته لتيموثاوس " أنت تعلم هذا، أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني " ( تيموثاوس (2) 1/15 ).
وفي رسالته لأهل غلاطية يشكو من أولئك الذين كذبوه " إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح، إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم، ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، ولكن إنْ بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما " ( غلاطية 1/6 - 8). 
ويقول بولس: " ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات فكيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات ؟ فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل كرازتنا، وباطل أيضاً إيمانكم " ( كورنثوس (1) 15/13 )، فالنص يتحدث عن إنكار بعض التلاميذ لصلب المسيح أو على الأقل لقيامته من الأموات. 
ويرى المحققون أن الحواريين ما كانوا يعرفون شيئاً عن صلب المسيح، بدليل خلو رسائلهم الموجودة في العهد الجديد من الحديث عن المسيح المصلوب. 
يقول المؤرخ فوتيوس: إنه قرأ كتاباً يسمى "رحلة الرسل" في أخبار بطرس ويوحنا واندراوس وتوما وبولس، ومما قرأ فيه " إن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره، وقد ضحك بذلك من صالبيه".
وتظهر المعارضة الصريحة لدعوى بولس صلب المسيح من الحواري "برنابا" في إنجيله الذي تتنكر له الكنيسة، وقد ذكر في مقدمته سبب تأليفه لهذا الإنجيل فيقول: " الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق، الذي رأيتهُ وسمعتهُ أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه، فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه، لتخلُصوا خلاصاً أبدياً " ( برنابا مقدمة /7 - 9 ). 
وكانت الفرق المسيحية المنكرة للصلب صدى لإنكار الحواريين على بولس كما قد سبق تفصيله.
كما تكشف لنا الكشوف الأثرية عن إنجيل اكتُشف حديثاً في نجع حمادي منسوباً للحواري المقرب بطرس، ينكر فيه صلب المسيح، ويقول برفعه قبل إجراء الصلب. 
ويعترف النصارى من مفسري الأناجيل بحدة الخلاف لبولس وتلاميذه، في مسألة صلب المسيح، وأن هذا الخلاف دعا الإنجيليين إلى التأكيد على أن المسيح قد صلب كما قال بولس الذي سبقت رسائله الأناجيل الأربعة في تاريخ كتابته.
فنقل أصحاب الأناجيل فيما بين سطور الأناجيل الإنكار على بولس وتكذيب صلب المسيح، يقول مرقس: " ثم خرجوا به ليصلبوه، فسخروا رجلاً مجتازاً كان آتياً من الحقل، هو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه " ( مرقس 15/20 - 23 ).
يقول المفسر نينهام في تفسيره لمرقس: " يبدو أن الغرض من هذه الفقرة هو ضمان صحة القصة؛ التي تقول بأن سمعان قد حمل الصليب، وما من شك في أن أحد الأسباب في الحفاظ على هذه التفاصيل الشخصية في الإنجيل؛ كان الغرض منه تذكير القراء بأن لديهم مصدراً للمعلومات عن الصلب، جديرًا بالثقة.. ولعل السبب في حذف هذه الرواية والخاصة بحمل سمعان القيرواني للصليب - من إنجيل يوحنا، هو الادعاء: بأن سمعان قد حل محل يسوع، وصُلب بدلاً منه، ولا يزال سارياً في الدوائر الغنوسطية، التي كانت لها الشهرة فيما بعد ".
وهكذا نفهم سبب مخالفة يوحنا للأناجيل الثلاثة في مسألة " من حمل الصليب " فيقرر أنه المسيح، حمل صليبه بنفسه فيقول: " فأخذوا يسوع، ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة.. حيث صلبوه " ( يوحنا 19/16 - 18 ).
وينبه فنتون شارح إنجيل متى إلى مثل هذا الفعل من متى، عندما عدَّل ألفاظ مرقس وهو ينقل عنه في أحداث اللحظة التي بعد اقتسام الثياب والاقتراع عليها، حيث يقول مرقس: " وكانت الساعة الثالثة فصلبوه " ( مرقس 15/25 ) لكن متى يغير، فيقول بعدها:." ثم جلسوا يحرسونه هناك " ( متى 27/36 )، فتكلم متى عن حراسة يسوع أثناء الصلب وبعده. ويرى فنتون أن ذلك " إنما يرجع إلى وجود أناس قالوا بأن يسوع قد أنزل من على الصليب، قبل أن يموت. كذلك فإن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صُلب بدلاً من يسوع. فلعل متّى كان يرد على هذه الأقوال ".

إمكانية نجاة المسيح

كما تتحدث النصوص الإنجيلية عن بعض ما أوتيه المسيح عليه السلام من تأييد الله له، وهذه الأعاجيب التي أوتيها تجعل نجاته - في تلك الليلة في بستان جثماني - ممكنة، وذلك لما منحه الله من قدرات مكنته مراراً من الإفلات من كيد اليهود، وهي ما تجعل نجاته يوم جاءوا للقبض عليه أمراً متوقعاً غير مستنكر ولا مستغرب، بل الزعم بتمكن اليهود وجند الرومان منه يثير سؤالاً كبيراً: أين اختفت هذه القدرات وهذه المعونة الإلهية له؟ هل أسلمه الله بعد طول حمايته وتأييده له، فتخلى عنه في أصعب الأيام وأضيقها.
فالمسيح - حسب ما ذكرت الأناجيل - قد أعطاه الله عز وجل قدرة على النجاة، والهروب من بين يدي أعدائه، فقد اختفى منهم أكثر من مرة لماّ أرادوا به شراً، فمن الطبيعي والمنطقي أن يهرب منهم يوم جاءوا للقبض عليه، وأمثلة هذه القدرة الباهرة كثيرة منها: قول لوقا: "فامتلأ غضباً جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كان مدينتهم مبنية عليه، حتى يطرحوه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم، وانحدر إلى كفر ناحوم" ( لوقا 4/28 - 31 ).
ولما كان في الهيكل، وكثر الجدال بينه وبين اليهود، هموا بقتله " فرفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى، وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى " ( يوحنا 8/59 ).
وفي مرة أخرى جادلهم " فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحدٌ يداً عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد، فآمن به كثيرون في الجمع، وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل أكثر من هذه التي عملها هذا " ( يوحنا 7/30 - 31 ) وقولُ إنجيل يوحنا:" لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " قولٌ لا يلزمنا فإنه يؤمن بصلب المسيح، ويحاول أن يبرر اختفاء هذه الخاصية عند القبض على المسيح.
وفي يوم العيد حصل مثله " فحدث انشقاق في الجمع لسببه، وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه، ولكن لم يُلق أحد عليه الأيادي " ( يوحنا 7/43 - 44 ).
ولما تمشّى في رواق سليمان، وأسمعهم دعوته " فطلبوا أن يمسكوه فخرج من أيديهم، ومضى أيضاً إلى عبر الأردن " ( يوحنا 10/39 - 40 ).
ولما كان في الخزانة في الهيكل، حاولوا إمساكه " ولم يمسكه أحد، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " ( يوحنا 8/20 ).
ويبقى السؤال أين اختفت هذه الخاصية للمسيح يوم المؤامرة العظمى؟ فلئن استعملها في الهرب من عامة اليهود، فاستعمالها في الهرب من الجند أَوُلَى.
في هذه النصوص تصديق لما أخبر الله عز وجل عنه في شأن المسيح، حيث قال وهو يعدد نعمه على المسيح: { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } (المائدة: 110) لقد رأوا ساحراً يسبب ما أمده الله من المعجزات الباهرة التي أعيتهم.
ومما تذكره الأناجيل من قدرات المسيح التي أمده الله بها قدرته على اختراق الحجب، يقول يوحنا: " ولما كان عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع، ووقف في الوسط، وقال لهم: سلام لكم " ( يوحنا 20/19 )، وفي لوقا لم يذكر إغلاق الأبواب، وإن ذكر ما يشعر بوجود أعجوبة " وفيما هم يتكلمون بهذا، وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً " ( لوقا 24/36 - 37 ).
كما ثمة أعجوبة أخرى، تجعل نجاة المسيح وخلاصه من أيدي كائديه ممكناً، ألا وهي ما تذكره الأناجيل من قدرة المسيح على تغيير هيئته وشكله، حتى يعجز المقربون منه عن معرفته، وقد صنع ذلك مراراً.
فقد خفي بعد القيامة على تلاميذه مرات عديدة، فخفي على مريم المجدلية التي هي من أقرب الناس إليه، وظنته البستاني، ولم تعرفه إلا بعد برهة. ( انظر يوحنا 20/14 - 15 ).
وكذلك خفي على التلميذين المنطلقين لعمواس، ولم يعرفاه إلا بعد أن بارك لهما طعامهما. (انظر لوقا 24/13 - 19 ).
وخفي أيضاً على التلاميذ مجتمعين، وهم يصيدون في بحيرة طبريا، وكان أول من عرفه بعد وقت طويل يوحنا. ( انظر يوحنا 21/1 - 7 ).
كما تقرر الأناجيل تغير شكله في أحداث قبل الصلب، ومن ذلك: ما ذكره لوقا " وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضاً لامعاً، وإذا رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيلياء " ( لوقا 9/29 ).
ويذكر متى أنه أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا " وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين، وتغيرت هيئته قدامهم " ( متى 17/1 - 2 ).
فلئن صح أن المسيح يقدر على تغيير شكله حتى يخفى أمره على الخلص من تلاميذه، فهو دليل على قدرته على الخلاص والنجاة من أيدي أعدائه، وهذا لا ريب يلجأ إليه في الشدائد، والمؤامرة الأخيرة عليه من أشدها.
وقد رأينا مما سبق اتفاق القرآن مع النصوص التوراتية والإنجيلية، التي تقول وتتنبأ بنجاة المسيح، ورفعة إلى السماء، ورأينا كيف أن هذا الأمر ممكن، وليس غريباً على قدرة الله العظيم.
كما أن توراة القوم وإنجيلهم، يتحدث عن معونة الله لعدد من القديسين رفعوا إلى السماء، منهم: أخنوخ " وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه " ( التكوين 5/24 ). ومثله إيليا "وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار، وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا من العاصفة إلى السماء " ( ملوك (2) 2/11 ).

الشك في شخص المصلوب

ذكرنا أن القرآن الكريم لم يكذب حصول حادثة الصلب، والذي ذكره القرآن يفهم منه حصول حادثة الصلب، لكن لغير المسيح عليه السلام، ولم يحدد القرآن شخص المصلوب، لكنه أفاد بوقوع شبه المسيح عليه، فصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام.
وقد أخبر القرآن الكريم أن الذين يدعون صلب المسيح ليس لهم به علم يقيني، بل هم يشكون في شخص المصلوب على رغم شبهه بالمسيح، لكنه يقيناً ليس بالمسيح عليه السلام. قال الله تعالى: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً } (النساء: 157).
وهذا الذي ذكره القرآن تصدقه النصوص الإنجيلية التي ذكرت شك الجنود واليهود في شخص المصلوب، وقد وقعت يومذاك عدة صور للشك: 
أولها: أن من جاءوا للقبض عليه أنكروا وجهه وصوته، ولم يعرفوه حيث خرج إليهم وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري، فأخبرهم بأنه هو، بيد أنهم لم يسارعوا للقبض عليه فأعاد عليهم السؤال، فأعادوا الجواب. ( انظر يوحنا 18/3 - 8 )
فهذا يدل على شكهم في شخصه، والسؤال المثير للاستغراب: كيف وقعوا بهذا الشك والمسيح قد عاش بين أظهرهم وهو أشهر من علم ؟
ثانيها: شك رئيس الكهنة في شخصية المأخوذ، وهو أمر جِد مستغرب، إذ المسيح كان يجلس في الهيكل، ويتحدث مع الكهنة ورؤسائهم، ورأوه وهو يقلب موائد الصيارفة في الهيكل ( انظر متى 21/12 - 15، 23 - 46 ).
وقد قال لهم حين جاءوا لأخذه: " كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصيٍ لتأخذوني، كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل، ولم تمسكوني " ( متى 26/55 ).
ويظهر الشك جلياً في قول رئيس الكهنة له أثناء المحاكمة: " أستحلفك بالله الحي، أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله ؟ " ( متى 26/62 – 64 ).
ويجلي لوقا ذلك فيقول " ولما كان النهار، اجتمعت مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت المسيح فقل لنا فقال لهم: إن قلت لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله، فقال الجميع: أفأنت ابن الله ؟فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو " ( لوقا 22/66 - 70 ).
فنلاحظ أن الجميع كان منشغلاً بتحقيق شخص المأخوذ، حتى في محاكمته.
ونلحظ أيضاً أن إجابة المأخوذ كانت:" أنت قلت " وقال لبيلاطس: " أنت تقول "، بمعنى أنه لم يصدق كلامهم ولم يكذبه، لكنه قال لهم: هذا ما تقولونه أنتم.
ثم ما هي الإجابة التي لن يصدقها رؤساء الكهنة ؟ ولو صدقوها لأطلقوه ؟ هي بلا شك: أنه ليس المسيح، بل يهوذا، وأما عيسى فقد أخبرهم يهوذا عن مكانه " جالساً عن يمين قوة الله " أو كما قال متى: " جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ).
وقد يسأل سائل: كيف عرف يهوذا مكان المسيح ؟ والجواب بسيط، لقد رأى يهوذا المسيح وهو ينجو ويصعد به إلى السماء، يوم أن اُلقي القبض عليه، بعد وقوع الجند.
وهنا قد يتساءل البعض لماذا شك الجند ورئيس الكهنة والكهنة في شخصية المأخوذ؟
وفي الإجابة نقول: لقد كانوا يعهدون في المسيح معالم معنوية، في كلامه، وذكائه وشجاعته، وعلمه، بل وصوته، وهم اليوم لا يرون شيئاً من ذلك، وهو ما حصل مع هيردوس: " وأما هيردوس فلما رأي يسوع فرح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير، فلم يجبه بشيء … فاحتقره هيرودس مع عسكره، واستهزأ به " ( لوقا 23/8 - 11 )، لقد رآه دون الرجل العظيم الذي كان يسمع عنه، بل لم يجد لديه أياً من معالم العظمة التي كان يسمع عنها.
وهذا الشك في المصلوب، هو ما تؤكده وثيقة إبراء اليهود من دم المسيح والصادرة عن الفاتيكان 1965 م فقد جاء فيها إن صحت النسبة إليها: " اليهود لم يصلبوا السيد المسيح إطلاقاً، وإنما صلبوا شخصاً لم يعرفوه، ولو عرفوا أنه المسيح: لم يفعلوا ذلك... أقرب الناس إلى المسيح لم يعرفه، فكيف يعرفه اليهود؟ ". و في ذلك كله تصديق لما أخبر عنه القرآن الكريم، قبل قرون طويلة من الشك في شخصية المصلوب. فقد قال الله تعالى موضحاً حالهم مع المصلوب وحيرتهم في شخصه: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً } (النساء: 157).

تنبؤات العهد الجديد بنجاة المسيح

إن خبر تنبؤ المسيح بقتله وصلبه، معارَض بنصوص كثيرة، أخبر المسيح فيها بنجاته، ومنها قوله حسبما جاء في يوحنا: " فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداماً ليمسكوه، فقال لهم يسوع: أنا معكم زمانا يسيراً بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ".
وقد فهم منه اليهود أنه أراد نجاته منهم " فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن ؛ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلم اليونانيين، ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" ( يوحنا 7/32 – 36 ).
ومرة أخرى، جاهر المسيح بنجاته منهم قائلاً: " أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب، وأما أنتم، فلا تعلمون من أين آتي، ولا إلى أين أذهب …. قال لهم يسوع أيضاً: أنا أمضي، وستطلبونني وتموتون في خطيتكم، حيث أمضى أنا، لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول: حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال لهم: أنتم من أسفل. أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم …
فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/21 - 29 ).
ثم مرة أخرى، لما أعطى يهوذا اللقمة قال لتلاميذه: " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن..... قال له سمعان بطرس: يا سيد، إلى أين تذهب، أجابه يسوع: حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً " ( يوحنا 13/32 - 36 ).
ومنها أيضا قول المصلوب ( يهوذا ) وهو في المحاكمة: " من الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله " ( لوقا 22/69 ) فقد رأى يهوذا نجاة المسيح بما رآه أو سمعه من المسيح عن نجاته، وما شاهده من نجاة المسيح لحظة ألقي الشبه عليه، وهو يخبر أنه في تلك اللحظة، المسيح في السماء، وقد رفع بقوة الله.
وقد رأى المحققون في هذه النصوص نبوءة واضحة بنجاة المسيح عليه السلام من يد أعدائه، وأنه سيرفع للسماء، فهو المكان الذي لا يقدرون عليه، ولو كان مقصده الموت، فإن ذلك أمر يطيقه كل أحد، كما أن أحداً لا يتحدى بأنه سيموت وهم لن يستطيعوه. لقد كان المسيح يتحدى أعداءه وهو يقول: " هو ذا بيتكم، يترك لكم خراباً، لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن، حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب " ( متى 23/28 - 29 ).
ومن النصوص التي تحدثت أيضاً عن نجاة المسيح قوله: "هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون فيها، كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي، قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " (يوحنا 16/32 - 33) فأين هذا من القول بصفع المسيح وصلبه وضربه ؟
ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح قول يوحنا: " من عند الله خرج، وإلى الله يمضي "
( يوحنا 13/3 ) ولو كان المقصود الموت، فكل الناس إلى الله تمضي، والقول بأن مضيه إنما يكون بعد الدفن ثلاثاً، يحتاج لدليل يثبت ذلك.
ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح ما جاء في متى " فقال لهم يسوع: هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم ؛ ولكن ستأتي أيام، حين يرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون " ( متى 9/15 )، ومقصده رفعه للسماء.
ولئن كان بولس قد تولى كبر القول بصلب المسيح، فإن الحق يراه المتبصر في فلتات لسانه، فيجد ما يدله على نجاة المسيح من الصلب. ومن ذلك قوله في وصف ملكي صادق: " لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم، كاهن الله العلي،.. بلا أب، وبلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولانهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى إلى الأبد " ( عبرانيين 7/1 -3 ) فيفهم من قوله بولس هذا: أن ليس للمسيح نهاية أرضية سابقة، كما هو الحال في ملكي صادق.
ومن ذلك أيضاً: أن في أقوال بولس ما يجعل حادثة الصلب قضية غير مسلم أنها حصلت للمسيح، ويُرى ذلك بالإمعان في هذه الأقوال، يقول بولس: "أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً، شكاً لليهود، وجهالة للأمم " ( كورنثوس (1) 1/ 23 )، وقد قال قبلها:" فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين، فهي قوة الله " ( كورنثوس (1) 1/18 ).
ومن أظهر أدلة نجاة المسيح ما قاله بولس عن المسيح: " في أيام بشريته قَرب تضرعات واستغاثات، وصراخ شديد، ودموع ذوارف للقادر، الذي بوسعه أن يخلصه من الموت، فاستجاب له من أجل تقواه "( عبرانيين 5/7 ).
فهذا النص، شهادة ناطقة، بأن الله استجاب للمسيح تضرعه في تلك الليلة، وصرف عنه ما كان يحذره ويخافه من الصلب.
ولنا أن تساءل عن تضرع المسيح ودعائه وطلبه صرف الصلب عنه، هل كان المسيح بجهل أنه سيصلب، وإذا كان يعلم أنه سيصلب فما فائدة هذا الدعاء والتضرع؟ فقيام المسيح بالدعاء دليل على ثقته بأن الله سيستجيب له. ثم لا يليق أن يقال بأن الله رد المسيح خائباً بعد هذا التضرع والدعاء، فمثل هذا لا يحصل إلا مع عصاة العباد.
ومما يؤكد استجابة الله للمسيح: ظهور ملاك له ليقويه ( انظر لوقا 22/43 ) فهل كان ذلك الملاك يضحك عليه ؟ أم يعينه فينجيه.
و هذا هو ما يليق بعدل الله ورحمته، وأن الله استجاب للمسيح فأنجاه، وصلب يهوذا الخائن، فهذا أليق بعدل الله وكرمه من القول بعدم استجابته للمسيح، وصلبه.
فاستجابة الله للأنبياء والصالحين حال دعائهم أمر مشهود، فقد وعد رسله بالنجاة ؛ كما وعد دواد "لا أموت، بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب.. إلى الموت لم يسلمني "( مزمور 118/17 – 18 )، وفي رسالة يعقوب " صلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه…" طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها، كان إيليا إنسانا تحت الآلام، ومثلنا صلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر، ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها " ( يعقوب 5/15 – 18 )
وقد استجاب الله عز وجل لإبراهيم لما أمره بذبح ابنه، فامتثل لأمر الله، فأنجى الله ابنه واستجاب له طلبه.
ويؤكد العلامة ديدات على قرينة وحدة أفعال الله، لإبطال صلب المسيح والحكم بنجاته، فقد نجى الله ابني دانيال، وإبراهيم، والفتية الثلاثة الذين ألقوا في النار.
أما نجاة إبراهيم، فقد ذكرت في قوله تعالى { قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين  قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم  فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين } (الأنبياء: 68 - 70).
وأما دانيال، فقد ألقاه الملك في جُبَّ مع الأُسود، وختم الجب بخاتمه، ثم لما فتحه ناداه "يا دانيال عبد الله الحي. هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود ؟ فتكلم دانيال مع الملك: يا أيها الملك، عش إلى الأبد، إلهي أرسل ملاكه، وسد أفواه الأسود، فلم تضرني، لأني وجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضاً.. فأمر الملك، فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال، وطرحوهم في جب الأسود هم وأولادهم، ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأُسود، وسحقت كل عظامهم " ( دانيال 6/15 - 24 ).
وأما الفتية الثلاثة فقد أُلقوا في النار، ولكن " لم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم " ( دانيال 3/27 ).
والعجب لإصرار النصارى على تكذيب المسيح وقد أخبر بنجاته، وقد أمكن الله له سبل النجاة المتنوعة، كما يسرها لكثيرين دونه في الفضل، منهم بطرس الذي دخل ملاك الرب إلى سجنه، وحطم سلاسله وهو نائم، وأمره بالخروج ( أعمال 12/7 ).
وكذلك نجا بولس - في زعمهم - فقد تزلزلت الأرض، وتصدع السجن، وتحطمت القيود. وانفتحت الأبواب، فهرب وصاحبه سِيلا من سجنهما. ( انظر أعمال 16/26 ).
فِلمَ أمكن هذا لبطرس وبولس، ولم يمكن للمسيح وهو أولى منهما برعاية الله وحفظه ؟!
وهكذا ومن خلال هذه الأمثلة، نرى أن رعاية الله قد أحاطت بالمسيح، وأنجته من يدي أعدائه، فتحقق ما كان قد تنبأ به بقوله: " والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/9 )..
تنبوءات الأناجيل المرفوضة عند الكنيسة بنجاة المسيحومما يؤكد ما ذهب إليه علماؤنا من نجاة المسيح وصلب غيره: ما جاء في إنجيل برنابا، وما وجد في مخطوطات نجع حمادي في مصر؛ حيث كشف بعد الحرب العالمية الثانية عن ثلاثة وخمسين نصاً، تقع في ألف ومائة وثلاثة وخمسين صفحة، ومن هذه النصوص ما تحدث عن نجاة المسيح، وأنه لم يصلب.
ولم يرد في هذه المخطوطات أيُّ ذِكْرٍ لمحاكمة المسيح وصلبه، بل جاء في إنجيل بطرس على لسان بطرس: "رأيته يبدو كأنهم يمسكون به، وقلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقاً من يأخذون ؟.. أم أنهم يدقون قدميّ ويديّ شخص آخر ؟.. قال لي المخلص.. من يُدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل، فهم يضعون الذي بقي في شبهة في العار ! انظر إليه، وانظر إليه ".
وفي مخطوطة أخرى من هذه المخطوطات وهي كتاب " سيت الأكبر " جاء على لسان المسيح "كان شخص آخر، هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا... كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه. وكنت أنا مبتهجاً في العُلا.. أضحك لجهلهم ".
وفي مخطوطة " مقالة القيامة ": ما يدل على أن المسيح مات موتاً طبيعياً، وأن روحه المقدسة لا يمكن أن تموت.
أما إنجيل برنابا، فيذكر قصة مقاربة لتلك القصة الموجودة في الأناجيل، ومن التشابه فيها: أن المسيح دعا وتضرع في البستان، وكان معه تلاميذه الأحد عشر، وأن يهوذا جاء مع الجند ليدلهم على مكان المسيح، مقابل ثلاثين من الفضة، وأن التلاميذ كانوا نياماً، وأنهم هربوا لما استيقظوا ورأوا الجند.
وكذا يذكر برنابا أن المأخوذ ( يهوذا ) قد أخذ إلى رئيس الكهنة الذي سأله إن كان هو المسيح، وعرضه على الوالي الذي كان يريد إطلاق سراحه، لقناعته ببراءة المقبوض عليه.
لكن الجموع رفضت ذلك. وقد ذكر برنابا أيضاً تحويل بيلاطس - المقبوض عليه - إلى هيردوس، وسخرية هيردوس منه بعد أن كان يتمنى لقياه، وأنه ألبسه إكليلاً من الشوك، وثوباً من الأرجوان، ثم أخرج فصلب.
وثمة نقاط صغيرة كثيرة تتشابه فيها رواية برنابا والروايات الإنجيلية، لكن رواية برنابا تفترق في نقاط. أهمها: - أن المقبوض عليه هو يهوذا، الذي ألقي عليه شبه المسيح.- ويذكر أن المسيح أخرجته الملائكة سالماً، وصعدت به إلى السماء، وأنه عاد بعد ذلك واجتمع بتلاميذه، وأخبرهم بحقيقة ما حصل، وبأنه نجا، وأن الذي دفنوه وصلبوه وسرقوه هو يهوذا الإسخريوطي.- كما يذكر برنابا أن الجسد المصلوب قد سرقه بعض التلاميذ من القبر، وأشاعوا قيامة المسيح من القبر، ثم يختم بذكر صعوده إلى السماء، بعد وداعه لتلاميذه ولأمه.
ومما ذكره برنابا في قصته: " فاعلم يا برنابا أنه لأجل هذا يجب عليّ التحفظ، وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة نقود، وعليه فأنا على يقين من أن من يبيعني يقتل باسمي، لأن الله يصعدني في الأرض، وسيغير منظر الخائن، حتى يظنه كل أحد إياي، ومع ذلك لما يموت شر ميتة؛ أمكث في ذلك العار زمناً طويلاً في العالم، ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس، تزال عني هذه الوصمة، وسيفعل الله هذا لأني اعترفت بحقيقة مسيّا، الذي سيعطيني هذا الجزاء، أي أن أعرف أني حي، وأني بريء من وصمة تلك الميتة.
فأجاب من يكتب: يا معلم. قل لي من هو ذلك التعيس؟ لأني وددت لو أُميته خنقاً. أجابه يسوع: صه، فإن الله هكذا يريد، فهو لا يقدر أن يفعل غير ذلك، ولكني متى حلت هذه النازلة بأمي، فقل لها الحق، لكي تتعزى...
وخرج يسوع من البيت، ومال إلى البستان ليصلي، فجثا على ركبتيه مائة مرة معفراً وجهه كعادته في الصلاة … ولما دنت الجنود مع يهوذا في المحل الذي كان فيه يسوع سُمع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياماً، فلما رأى الله الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد"
"ودخل يهوذا إلى الغرفة. دخل يهوذا مندفعاً أمام جميع من كانوا معه إلى الحجرة التي كان فيها عيسى، ثم رفع منها إلى السماء بينما كان التلاميذ نياماً على أن الله العظيم القادر على كل شيء، تصرف تصرفاً عجيباً، فحول يهوذا إلى صورة عيسى وهيئته وصوته وأسلوب حديثه تماماً حتى اعتقدنا أنه عيسى، ولما استيقظنا من النوم كان يدور ليعرف مكان المعلم، أما نحن فعجبنا للأمر، فقلنا له: إنك أنت معلمنا ومولانا، هل نسيتنا ؟
فضحك يهوذا، وقال: إنكم لحمقىْ ألا تعرفونني؟ أنا يهوذا الأسخريوطي، وفي هذه اللحظة دخل الجنود، ووضعوا أيديهم على يهوذا فقد كان صورة طبق الأصل لعيسى.
ولما سمعنا نحن قول يهوذا ورأينا كتائب الجنود هربنا واختفينا، كان يوحنا يلتف بقماش من التيل، فاستيقظ وهرب، ولما أمسك أحد الجنود بقطعة القماش، تركها له، وفر هارباً عاري الجسد، إذ كان الله قد سمع دعوة عيسى، وبالفعل نجا التلاميذ الأحد عشر من كل شر". ( برنابا 214/1 - 216/13 )
ثم لما رجع يسوع من السماء لوداع أمه " وبخ كثيرين من الذين اعتقدوا أنه مات، وقام قائلاً: أتحسبونني أنا والله كاذبين، لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم: إني لم أمت، بل يهوذا الخائن. احذروا، لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم... وبعد أن انطلق يسوع تفرق التلاميذ في أنحاء إسرائيل والعالم المختلفة.
أما الحق المكروه في الشيطان فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائماً فإن فريقاً من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشّروا بأن يسوع مات ولن يقوم، وآخرون بشروا بأنه مات بالحقيقة ثم قام، وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله، وقد خدع في عدادهم بولس.
أما نحن فإنما نبشر - بما كتبت - الذين يخافون الله، ليخلصوا في اليوم الأخير لدينوية الله" (برنابا 221/15 - 222/6 )
وهكذا نجد الأدلة الإنجيلية تتوالى، وهي تصرح بوضوح تام بنجاة المسيح من كيد أعدائه، فما على النصارى إلا الإذعان لهذه النصوص والقول بنجاة المسيح من الصلب.
وهكذا نرى الحقيقة بادية وضوح الشمس في رابعة النهار، نطقت بها النبوات نبياً بعد نبي في جلاء ووضوح عجيب.
ويتساءل المرء: لِمَ لَمْ يتوصل النصارى إلى هذه الحقيقة الجلية ؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال يرى منصور حسين أن الطريقة الخاطئة والمغلوطة التي يفكر بها النصارى، هي التي حجبت شمس الحقيقة عنهم. وكمثال لطريقتهم في التفكير، ينقل عن الدكتور ر.أ. ترى في كتابه " كيف تدرس الكتاب المقدس ".
فقد وضع الدكتور النصراني شروطاً ينبغي أن يتحلى بها قارئ الكتاب المقدس، ليحصل على أكبر قدر من الفائدة فمن هذه الشروط: أن يكون القارئ مولوداً ولادة ثانية ( مسيحياً )، وأن يكون محباً للكتاب المقدس، وعنده استعداد للكد والجد في دراسته....
ويتوقف منصور حسين مع شرطين مهمين:
أولهما: أن يكون عند الدارس " إرادة مسلَّمة تسليماً كاملاً.... "
وثانيهما: " أن ندرسه باعتباره كلمة الله "
فيرى الأستاذ منصور حسين أن هذين الشرطين يفرضان على قارئ الكتاب المقدس التسليم والإيمان بأن ما يقرأه هو وحي الله، الذي لاشك فيه ولا لبس، مهما ظهر فيه من التناقض، والخطأ، والتعارض مع المعتقدات النصرانية.
فمثلاً: عندما يقرأ النصراني في المزمور قوله " أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر " (المزمور 22/6) يجد أنه من غير المنطقي أن يكون هذا عن المسيح، لكنه يسلم لمشيئة مؤلفي العهد الجديد، فيقول بأنه نبوءة عن المسيح رغم استحالتها بحقه.
ويفعل الشيء نفسه، وهو يقرأ " الرب مخلص مسيحه " ( المزمور 20/6 ) وهكذا فهم يضعون النتائج أولاً، ثم يقرؤون الكتاب المقدس.
وهكذا، فإن المتأمل لهذين الشرطين " ليكاد يقطع بأن واضعهما يعرف بيقين أن لو أطلقت للباحث حرية البحث عن الحقيقة وحدها، فإنه سينتهي من العهد القديم إلى ما يخالف ما جاء به العهد الجديد ( من حديث عن صلب المسيح ) فيصل إلى أن الله مخلص مسيحه، ورافعه إليه، وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب هو يهوذا ".

إبطال الصلب بنبوءات وأخبار الأناجيل والرسائل

تتحدث الأناجيل الأربعة عن صلب المسيح، كخاتمة لوجوده على الأرض، ولكن: هل تنبأ المسيح بأنه سيصلب ؟ وهل عرف بذلك تلاميذه ؟
لا ريب أن إجابة النصارى تتلخص في أن المسيح عرف أنه سيصلب وسيسلم لأعدائه، وأنه أخبر تلاميذه بذلك. وحجتهم في ذلك قول متى: " تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليصلب " ( متى 26/1 ) لكن الناظر في الأناجيل، يرى أيضاً أن المسيح تنبأ بنجاته، بل أعلنها على ملأ اليهود، وتحداهم، وأخبر بأنه غلبهم، وغلب العالم.
فكما تشهد الأناجيل بصلب المسيح، فإنها تنقل عن المسيح شهادته بنجاته، وقد تجاهل النصارى هذه الروايات، ولم يلتفتوا إليها.
ولكن الحقيقة تكمن في أن خبر تنبؤ المسيح بقتله أو صلبه، قول دخيل على الأناجيل، ملحق بها، ويقيم محمد أبو الغيط الفرت الأدلة على ذلك، ومنها: 
 أن العبارة في متى وردت بلا مقدمة، ولا مناسبة، ولا تعليق عليها من قبل الحواريين، حتى وكأنها تتحدث عن حدث عادي، فلئن صحت، دل ذلك على أن ابن الإنسان المصلوب المسلّم لأيدي الخطاة، هو غير المسيح.  ذكر الإنجيليون الثلاثة الذين ذكروا الخبر بأن المسيح سيقوم في اليوم الثالث ( انظر متى 17/23، مرقس 9/32، لوقا 18/33 )، وهذا لم يحصل، بل مكث ما لا يزيد بحال عن ليلتين ويوم.  يقترن وصف الأناجيل الثلاثة لردة فعل التلاميذ حيال هذا الخبر بكثير من الغرابة، ففي متى
( 26/1 - 2 ) لم يذكر لهم حساً ولا خبراً، بيد أنه في ( متى 26/23 ) ذكر بأنهم " حزنوا جداً" ويفهم منه أنهم فهموا مراده فحزنوا، لكن مرقس يقول: " وأما هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه " ( مرقس 9/32 )، ويؤكد لوقا هذا بقوله: " وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً، وكان هذا الأمر مخفياً عنهم، ولم يعلموا ما قيل ".
 وإضافة إلى تناقض النصوص، فإن في خوف التلاميذ من المسيح ما يدعو للعجب، فقد عرف بدماثة خلقه، وبتحببه لهم، حتى إنه غسل أرجلهم، وكثيراً ما كانوا يسألوه، فِلمْ لم يسألونه في هذا الأمر الخطير؟  تتحدث المواضع الأربعة – التي ذكرت تنبؤه بالموت - عن تسليم ابن الإنسان، وقتله أو صلبه، ولا تنص على عيسى، لكن اللفظ – وإن تبادر في الذهن إلى المسيح – فإنه يصح أن يطلق على غيره، بدليل أنهم سألوه عن ابن الإنسان مَن هو بقولهم: " من هو هذا ابن الإنسان؟ " ( يوحنا 12/34 ) ولو كان خاصاً هذا اللقب بالمسيح، لما كان في سؤالهم وجه.  ومما يدل على عدم صحة التنبؤ بالصلب والقتل: فرار التلاميذ، وفيهم بطرس الذي قال له المسيح: "طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك، فقال له: يا رب، إني مستعد أن أمضي معك، حتى إلى السجن، وإلى الموت " ( لوقا 22/32 - 34 )
فدل هذا على معرفتهم بأن المأخوذ غيره، كما قد عرفوا ذلك فهربوا، وقد قال عنهم المسيح: " الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك " (يوحنا 17/12 ).
ثم بعد ذلك ولأن أمر المصلوب لا يهمهم وقد عرفوا بنجاة سيدهم لم يهتموا بمتابعة المصلوب وهو على الصليب، أو في أثناء المحاكمة، إلا ما جاء عن بطرس ويوحنا وبعض النسوة.
كما تذكر الأناجيل دليلاً آخر على عدم صحة هذه النبوءات عن صلب المسيح، بل تدلل على أن المسيح تنبأ بنجاته وفهم التلاميذ منه ذلك، وقد أشكل عليهم رؤيتهم للمأخوذ وقد قبض عليه، وظنوه المسيح، فوقعوا فيما حذرهم منه المسيح، وهو ما ذكره مرقس في إنجيله، من أن المسيح قال لتلاميذه: " كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة " ( مرقس 14/27 ).
لا تذكر الأناجيل شيئاً عن شك التلاميذ، سوى ما ذكرته عن بطرس الذي أنكر المأخوذ ثلاث مرات ليلة المحاكمة، وأما الآخرون فصمت مطبق، فكيف شك التلاميذ ؟
يجيب العلامة أحمد عبد الوهاب بأن الشك هو تراجع داخل النفس، ويستشهد لتفسيره بما جاء في غير الترجمة العربية، فالنص في التراجم الأخرى تعريبه هكذا:" كلكم ترتدون عن عقيدتكم وتزلون ".
ويفرق بين الإنكار والشك، فالشك عمل قلبي، والإنكار: قد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده في قلبه، والذي وقع من التلاميذ شك لا إنكار. فلقد آمن التلاميذ بالمسيح، وصدقوه فيما تنبأ به، فإذا رأوا ما اعتبروه مخالفاً لنبوءاته، فسوف يحصل منهم الشك، والردة عن العقيدة. 
ويورد هنا أحمد عبد الوهاب احتمالين: الأول: أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، وستُحدث له ألماً ومعاناة، إلا أنها ستفشل، وسينقذه الله من القتل، كما في قوله: " ستطلبونني ولا تجدونني ". وهذا الذي حصل ولم يشاهدوه، بل شاهدوا ما حسبوه وظنوه نقيضه، فقد رأوا المسيح مأخوذاً مصلوباً، فوقعوا في الشك به لأن كلامه لم يتحقق..والثاني: أن المسيح تنبأ بأن المؤامرة ستنتهي بقتله.
وهذا ما يدحضه العود إلى لحظة القبض على المسيح حيث نجد أن التلاميذ جميعاً قد هربوا، وتركوا المسيح وحده. ويبدو هنا شكهم واضحاً، لقد حصل ما لم يتوقعوه – فيما يظهر لهم -، وما لم يتنبأ به المسيح.
فلئن كان أخبرهم بأن سيُقبض عليه وسيقتل، فليس ثمة ما يثير الشك، وإن كان الاحتمال الأول بأنه سينجو، وأن المؤامرة ستفشل، ولكنهم يجدونه – فيما يظهر لهم - قد قبض عليه، ولم تتحقق نبوءته، فحينئذ وقعوا في الشك. 
فالنصارى أمام خيارين: الأول: نفي الشك عن التلاميذ وتكذيب المسيح.
الثاني: التسليم بأن الأناجيل تذكر نبوءات غير صحيحة تنسبها للمسيح.
فإن رفضوهما فليس لهم إلا أن يصدقوا بفشل المؤامرة، ونجاة المسيح من الصلب.
إذن فلقد تحقق الشك، حين حسبوا المسيح هو المأخوذ والمصلوب، وقد كان أخبرهم بنجاته، كما قد سمعوا منه مراراً، كما سيأتي تفصيله.
وأما سيء الذكر في الأناجيل - بطرس-، فإنه الوحيد من بين التلاميذ الذي ذكر أصحاب الأناجيل شكه، ويتمثل شكه عند النصارى في تنكره للمسيح، قبل أن يصيح الديك صباح تلك الليلة مرة أو مرتين على خلاف بين متى ومرقس.
لكن أحمد عبد الوهاب يفرق مرة أخرى بين الشك والإنكار، فما حصل من بطرس هو إنكار، وليس بشك، فقد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده بقلبه.

إبطال صلب المسيح بنبوءات التوراة


تحتل النبوءات في الفكر المسيحي مكانة سامقة، جعلت بعض النصارى يشترطون لصحة النبوة أن يسبقها نبوءة.
وحادثة صلب المسيح - كما يعتبرها النصارى - أحد أهم أحداث المعمورة، فكان لابد وأن يتحدث عنها الأنبياء في أسفارهم، وأن يذكرها المسيح لتلاميذه.
فهل أخبرت الأنبياء بصلب المسيح وقيامته ؟ وهل أخبر المسيح تلاميذه بذلك؟
والإجابة النصرانية عن هذه التساؤلات كانت بالإيجاب، وأن ذلك في مواضع كثيرة من الأناجيل والرسائل والأسفار التوراتية.
ولعل من نافلة القول أن نذكر بأن النصارى يعتبرون أسفار التوراة جزءً مقدساً كتابهم المقدس، كيف لا والأناجيل ما فتئت تحيل إلى هذه الأسفار، تستمد منها تنبؤاتها المستقبلية، التي تحققت في شخص المسيح في حياته أو حين صلبه .
وللأسفار التوراتية دور عظيم في مسألة صلب المسيح، فقد أكثرت الأناجيل في هذه القصة من الإحالة إلى أسفار التوراة؛ التي يرونها تتنبأ بالمسيح المصلوب، وكانت نصف هذه الإحالات إلى المزامير المنسوبة لداود وغيره، وقد ذكر عيسى عليه السلام لتلاميذه ضرورة أن تتحقق فيه النبوءات التوراتية بقوله: "لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" ( لوقا 26/44 ) وقد قال لهم: " فتشوا الكتب …. وهي التي تشهد لي " ( يوحنا 5/39 ).
والنبوءات التي أحالت إليها الأناجيل بخصوص حادثة الصلب أربع عشرة نبوءة، ذكر متى منها ستاً، ومرقس أربعاً، ولوقا اثنتين، بينما ذكر منها يوحنا سبع نبوءات.
ونخلص من هذا إلى أهمية النبوءات التوراتية المتعلقة بصلب المسيح.
ويبالغ النصارى في التركيز على أهمية النبوءات التوراتية المتحدثة والمشيرة للمسيح وكثرتها، فيقول القمص سرجيوس في كتابه " هل تنبأت التوراة عن المسيح " : " فالمسيح ساطع في كل الكتاب المقدس في إشراق دائم، وليس كالشمس التي تغيب عن نصف الأرض ليلاً، إذ ليس في التوراة أو كتب الأنبياء جزء تغرب عنه شمس المسيح، بل يشع اسمه، وشخصه، وصفاته، وأعماله، وظروفه، وأحواله في التوراة، وكتب الأنبياء، وفي ثنايا سطورها نجد المسيح في كل جملة، وفي كل إصحاح، وفي كل سفر من أسفارها. وما حروفها وكلماتها إلا خطوطاً أو ظلالاً لصورة المسيح المجيدة.... فنحن المسيحيين لا نهتم أين نفتح التوراة وكتب الأنبياء لنجد الكلام عن المسيح.... "، ورغم ما في الكلام من مبالغة، فإننا - كما يقول المستشار منصور حسين في كتابه الفريد "دعوة الحق بين المسيحية والإسلام" - نستشف منه أهمية النصوص التوارتية في الدلالة على المسيح.
ولسفر المزامير وموضوع الصلب شأن خاص، يصفه سرجيوس فيقول: " أما سفر المزامير فكان الهالة، التي أحاطت بكوكب يسوع، فتكلم حتى عن إحساساته العميقة، وآلامه المبرحة ناهيك عن صفاته وألقابه، أكثر من أي نبي آخر، ويمكننا القول، أن سفر المزامير هو سفر "مسِيّا" الخاص، بدليل أن الاقتباسات التي اقتبسها كتبة العهد القديم من سفر المزامير هذا بلغت نصف الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم كله ".
ويؤكد عبد الفادي القاهراني أهمية المزامير في كتابه " رب المجد " بقوله: " لم يوجد كتاب مليء بالإشارات والرموز والنبوءات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا، وعليه فأهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف ".
لذلك فإن العلماء المسلمين ارتضوا محاكمة النصارى في هذه المسألة إلى أسفار التوراة، ذلك بأنه ليس من المقبول أن يتصور أحد أن اليهود يغيرون كتبهم لتتمشى مع معتقدات النصارى، لذا فهم يرتضون هذه الكتب معياراً للكشف عن الحقيقة.
وقبل أن نشرع، فإنه يحسن التنبيه إلى نقاط الاختلاف والاتفاق بين المسلمين والنصارى في مسألة الصلب.
النصارى يقولون بصلب المسيح، بينما يقول المسلمون بأنه لم يصلب، وأنه قد شُبه غيرُ المسيح به، ولا ينفون وقوع صلب لغيره.
وقد أنبأ الله المسيح بتعرضه للبلاء والامتحان وأن أحد تلاميذه سيسلمه لأعدائه "ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر، وفيما هم يأكلون قال: الحق أقول لكم: إن واحداً منكم يسلمني، فحزنوا جداً، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني، إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان،كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد" (متى 26/20-24).
وقد تألم المسيح لذلك الخبر وارتاع، فقام يطلب من الله ويدعوه أن يصرف هذه المؤامرة عنه، دعا الله بلجاجة وحرارة أن ينجيه منها، ويصور لنا متى حال المسيح وشدة ضراعته لله ، فيقول: "جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني، فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلّي هناك، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلاً وخرّ على وجهه، وكان يصلّي قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت، ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً.. فمضى أيضاً ثانية، وصلّى قائلاً: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا إن أشربها، فلتكن مشيئتك، ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً، إذ كانت أعينهم ثقيلة، فتركهم، ومضى أيضاً، وصلّى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه" ( متى 26/36 -40)، ويصف لوقا المشهد، فيقول: "وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " ( لوقا 22/44 ).
فالمسلمون مصدقون بهذا الدعاء الطويل، إذ هو حال الصالحين جميعاً حين يتعرضون للأهوال والشدائد، فلا يجدون ناصراً يلجؤون إليه إلا الله العظيم.
وقد أجاب الله دعاء عبده المسيح فصرف عنه كأس الموت، كما قال بولس: "الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7)، فقد سمع الله لعبده المسيح.
وهكذا فالمسلمون لا ينفون جملة ما ترويه الأناجيل من وقوع تلك الأحداث التي صاحبت الصلب أو سبقته، كالحديث الطويل الذي أوردناه عن الدعاء الطويل للمسيح في البستان طالباً من الله أن ينجيه من الموت، وكذا يصدقون بأن الجموع حضرت للقبض عليه، وأن ثمة من أُخذ من ساحة البستان، وأن المأخوذ حوكم، وصلب، ثم دفن.
فالخلاف إنما هو في حقيقة المأخوذ والمصلوب، فيرى المسلمون أنه يهوذا الخائن، وأن لحظة الخلاص هي تلك التي أراد الجند أن يلقوا القبض فيها على المسيح، فسقطوا على الأرض، سقطت الجموع الغفيرة، وتدافع الجند، ووقعت المشاعل من أيديهم، ثم نهضوا ليجدوا دليلهم يهوذا الأسخريوطي وحيداً في الساحة، فأخذوه وقد ألقى الله عليه شبه المسيح، لينال جزاء خيانته لسيده.
وهذه اللحظة العظيمة الخالدة سجلها يوحنا حين قال: " فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم يسوع: أنا هو، وكان يهوذا مسلمه أيضاً واقفاً معهم، فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" ( يوحنا 18/4-6 )، فكانت لحظة سقوطهم لحظة الخلاص الخالدة التي تاهت عنها عيون الملايين من النصارى ممن ظن أن المأخوذ بعدها هو المسيح، .
وأما المسيح فقد نزلت ملائكة الله وصعدت به إلى السماء، " وظهر له ملاك من السماء يقويه" ( لوقا 22/44 ) لينجو من المؤامرة بحماية الله العظيم، وأعطي بذلك حياة طويلة تمتد إلى قبيل قيام الساعة حيث ينزل إلى الأرض عليه السلام لعيش عليها ويموت في سلام.. { والسّلام عليّ يوم ولدتّ ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً } (مريم: 32).
فماذا تراه تقول المزامير والأسفار عن هذا الحدث العظيم الذي لا يصح أن تغفله الكتب؟ هل تراها تحدثت عنه؟ ولو أجبنا بالإثبات، فماذا تُراها تقول؟ هل تحدثت عن المسيح المصلوب كما يؤمن النصارى وكتاب العهد الجديد، أم تحدثت عن نجاة المسيح وصلب الخائن الأسخريوطي، كما يعتقد المسلمون؟
دعونا نتجرد ونبحث عن الجواب الصحيح في سفر المزامير الذي فاقت أهميته عند اللاهوتيين جميع الأسفار.
ولسوف نستعرض في هذه العجالة اثنا عشر مزموراً فقط، من نبوءات المزامير، نختصرها من دراسة الأستاذ منصور حسين الرائعة في كتابه الماتع "دعوة الحق بين المسيحية والإسلام"، والتي شملت ستة وثلاثين مزموراً.
والمزامير التي اختارها للدراسة، يجمعها أنها مما يعتبره النصارى نبوءات تحدثت عن المسيح المصلوب.
أولاً: المزمور الثاني وفيه: " لماذا ارتجت الأمم، وتفكر الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معا على الرب، وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودها ولنطرح عنا رُبُطهما.
الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم، حينئذ يتكلم عليهم بغضبه، ويرجفهم بغيظه " ( المزمور 2/1 - 5 ).
والمزمور: يراه النصارى نبوءة بالمسيح الموعود. يقول د.هاني رزق في كتابه " يسوع المسيح ناسوته وألوهيته " عن هذا المزمور: " وقد تحققت هذه النبوءة في أحداث العهد الجديد، إن هذه النبوءة تشير إلى تآمر وقيام ملوك ورؤساء الشعب على يسوع المسيح لقتله وقطعه من الشعب، وهذا ما تحقق في أحداث العهد الجديد في فترتين، في زمان وجود يسوع المسيح له المجد في العالم " ويقصد تآمر هيرودس في طفولة المسيح، ثم تأمر رؤساء الكهنة لصلب المسيح.
ووافقه "فخري عطية" في كتابه "دراسات في سفر المزامير" و"حبيب سعيد" في "من وحي القيثارة " وويفل ل كوبر في كتابه "مسيا عمله الفدائي" وياسين منصور في "الصليب في جميع الأديان "، فيرى هؤلاء جميعاً أن المزمور نبوءة بالمسيح المصلوب.
وقولهم بأن النص نبوءة بالمسيح تصديق لما ورد في سفر أعمال الرسل: " فلما سمعوا رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله وقالوا: أيها السيد، أنت هو الإله صانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. القائل بفم داود فتاك: لماذا ارتجّت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل. قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه. لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقت فعيّنت يدك ومشورتك أن يكون‏" (أعمال 4/24-31).
ولا نرى مانعاً في موافقتهم بأن المزمور نبوءة عن المسيح، فالمزمور يتحدث عن مؤامرات اليهود عليه، وهذا لا خلاف عليه بين المسلمين والنصارى، وإنما الخلاف: هل نجحوا أم لا؟ فبماذا يجيب النص؟ يجيب بأن الله ضحك منهم واستهزأ بهم، وأنه حينئذ، أي في تلك اللحظة أرجف المتآمرين بغيظه وغضبه.
هل يكون ذلك لنجاحهم في صلب المسيح، أم لنجاته من بين أيديهم، ووقوعهم في شر أعمالهم؟
ويفسر المزمور السابع والثلاثون سبب ضحك الرب واستهزائه، فيقول: "الشرير يتفكر ضد الصدّيق، ويحرق عليه أسنانه، الرب يضحك به، لأنه رأى أن يومه آت، الأشرار قد سلّوا السيف، ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير، لقتل المستقيمِ طريقُهم، سيفهم يدخل في قلبهم، وقسيّهم تنكسر" (المزمور 37/12-15)، لقد ضحك لفشل المؤامرة، وعودها على أصحابها، فقد وقعوا في الحفرة التي حفروها للمسيح الذي نجاه الله.
ثانياً: المزمور السابع وفيه: " يا رب، إلهي عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني، ونجني لئلا يفترس كأسد نفسي، هاشماً إياها، ولا منقذ.
يا رب، إلهي، إن كنت قد فعلت هذا، إن وجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شراً، وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي، وليدركها، وليدس إلى الأرض حياتي، وليحط إلى التراب مجدي، سلاه.
قم يا رب بغضبك، ارتفع على سخط مضايقي، وانتبه لي. بالحق أوحيت، ومجمع القبائل يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا، الرب يدين الشعوب، اقض لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيّ، لينته شر الأشرار، وثبت الصديق، فإن فاحص القلوب والكلى: الله البار، ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب.
الله قاض عادل، وإله يسخط كل يوم، إن لم يرجع يحدد سيفه: مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة.
هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كرى جُبّاً حفره، فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه. أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي" (المزمور 7/1-17 ) .
جاء في كتاب " دراسات في المزامير " لفخري عطية: " واضح أنه من مزامير البقية، إذ يشير إلى زمن ضد المسيح، وفيه نسمع صوت البقية، ومرة أخرى نجد روح المسيح ينطق على فم داود بالأقوال التي تعبر عن مشاعر تلك البقية المتألمة، في أيام الضيق العظيمة ".
والربط واضح وبيّن بين دعاء المزمور المستقبلي " يا رب، إلهي، عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني ونجني.... " وبين دعاء المسيح ليلة أن جاءوا للقبض عليه "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس".
ثم يطلب الداعي من الله عوناً؛ أن يرفعه إلى فوق، في لحظة ضيقه " فعد فوقها إلى العلا "، ويشير إلى حصول ذلك في لحظة الإحاطة به " ومجمع القبائل - يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا ".
ثم يذكر المزمور بأن الله " قاض عادل " فهل من العدل أن يصلب المسيح أم يهوذا ؟
ثم يدعو الله أن يثبت الصديق، وأن ينتهي شر الأشرار، ويؤكد لجوءه إلى الله، مخلص القلوب المستقيمة.
ثم يتحدث المزمور عن خيانة يهوذا. وقد جاء " مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت " (القُبلة الآثمة) " ويجعل سهامه ملتهبة ".
ولكن حصل أمر عظيم، لقد انقلب السحر على الساحر، " هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كَرَى جُبّاً، حفره فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه " لقد ذاق يهوذا ما كان حفره لسيده المسيح، ونجا المسيح في مجمع القبائل إلى العلا.
لقد تحقق فيه قانون الله في الخائنين " من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن يدحرج حجراً يرجع عليه" (الأمثال 26/27)، وفي موضع آخر "الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يمسك، إنه يموت من عدم الأدب، وبفرط حمقه يتهور" (الأمثال 5/22-23)، وفي سفر الجامعة "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جداراً تلدغه حية" (الجامعة 10/8).
وهذا ما أسفر عنه المزمور التاسع بوضوح حين قال: " لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضياً عادلاً، انتهرت الأمم، أهلكت الشرير.. تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم، معروف هو الرب قضاءً أمضى: الشرير يعلق بعمل يده " ( المزمور 9/4 - 16)، فهل تراه علق يهوذا بشرِّ يديه أم نجا من قانون الله وقضائه، وأفلت من الشبكة التي نصبها للمسيح؟
ثم ينتهي المزمور بحمد الله على هذه العاقبة " أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي " وهكذا نرى في هذا المزمور صورة واضحة لما حصل في ذلك اليوم، حيث نجى الله عز وجل نبيه، وأهلك يهوذا.
ولا مخرج للنصارى إزاء هذا النص إلا إنكاره، أو التسليم له، والقول بأن المسيح له ظلم، وله إثم، وأنه ذاق ما كان يستحقه، وأن الله عادل؛ بقضائه قتل المسيح، وأن ذلك أعدل وأفضل من القول بنجاته؛ وصلبِ يهوذا الظالم الآثم، جزاءً لفعله وخيانته، وإلا فعليهم الرجوع إلى معتقد المسلمين؛ بأن النص نبوءة عن يهوذا الخائن، ولا رابع لهذه الخيارات الثلاثة.
ثالثاً: المزمور العشرونوفيه: " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك، سلاه، ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك، نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا، ليكمل الرب كل سؤلك.
الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن: فاسم الرب إلهنا نذكره.
هم جثوا وسقطوا، أما نحن: فقمنا وانتصبنا، يارب: خلص، ليستجيب لنا الملك في يوم دعائنا" ( المزمور 20/1 - 9 ).
يقول هاني رزق في كتابه " يسوع المسيح في ناسوته ولاهوته ": " تنبأ داود النبي (1056 ق.م)، و(حبقوق النبي 726 ق. م)، بأن الرب هو المسيح المخلص، نبوءة داود النبي، مزمور 20/9 " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه.... "
وفي كتاب " دراسات في سفر المزامير" "يؤكد فخري عطية" هذا، ويقول عن الفقرة التاسعة من هذا المزمور " في هذا العدد تعبير يشير في الكتب النبوية إلى ربنا يسوع المسيح نفسه، تعبير يستخدمه الشعب الأرضي عن المخلص العتيد ".
ولكن القراءة المتأنية لهذا المزمور ترينا أنه ثمة متحدث، وهو داود يدعو الله أن ينجي المسيح، وأن يرفعه للسماء لما صنع من بر وخير، ويبتهل صاحب المزمور طالباً النجاة له في يوم الضيق، وليس من يوم مرّ على المسيح أضيق من ذلك اليوم الذي دعا فيه طويلاً، طالباً من الله أن يصرف عنه هذا الكأس " وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " ( لوقا 22/44 ).
ويطلب داود من الله إجابة دعاء المسكين وإعطاءه ملتمس شفتيه وسؤله وكل مراده " ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك... ليكمل الرب كل سؤلك".
وهذ العون والنجاء يطلبه له داود لما سبق وتقدم به المسيح من أعمال صالحة " ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك".
وينص المزمور على اسم المسيح، وأنه يخلصه من الموت في فقرة ظاهرة لا تخفى حتى على الأعمى، فقد عرف داود نتيجة دعائه " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص "، فالمزمور يذكر المسيح بالاسم، ويتحدث عن خلاصه، أن الله رفعه، وأنه أرسل له ملائكة يحفظونه " ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه".
ويبتهج المزمور لهذه النهاية السعيدة "نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا".
ويتحدث المزمور أيضاً عن تلك اللحظة العظيمة، لحظة الخلاص التي نجا فيها المسيح " هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا "، فهو يتحدث عن لحظة وقوع الجند كما في يوحنا " فلما قال لهم: إني أنا هو ؛ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " ( يوحنا 18/6 ).
وهذه اللحظة العظيمة، لحظة الخلاص يسجلها أيضاً المزمور التاسع، فهي إحدى آيات الله وأعاجيبه في خلقه، "أحمد الرب بكل قلبي، أحدث بجميع عجائبك، افرح وابتهج بك، أرنم لاسمك أيها العلي، عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون، ويهلكون من قدام وجهك، لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضياً عادلاً، انتهرت الأمم، أهلكت الشرير، محوت اسمهم إلى الدهر والأبد" (المزمور 9/1-5).
فالقاضي العادل أهلك الشرير ، عندما رجع المبطلون إلى خلف وسقطوا، لتتحقق الأعجوبة وينجو العبد البار، فيحمد الله لأنه " رافعي من أبواب الموت" (المزمور 9/13)، لقد انتشله من فم الموت، ونجاه.
كما سجل المزمور السابع والعشرون هذه اللحظة العظيمة فقال: "عندما اقترب إليّ الأشرار ليأكلوا لحمي، مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا... لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر، يسترني بستر خيمته" (المزمور 27/2-5).
فدلالة هذا المزمور على نجاة المسيح أوضح من الشمس في رابعة النهار.
رابعاً: المزمور الحادي والعشرونوفيه: " يا رب، بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك، كيف لا يبتهج جداً؟
شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه، سلاه. لأنك تتقدمه ببركات خير، وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة، سألكَ فأعطيته، طول الأيام إلى الدهر والأبد عظيم، مجده بخلاصك، جلالاً وبهاء تضع عليه، لأنك جعلته بركات إلى الأبد، تفرحه ابتهاجاً أمامك، لأن الملك يتوكل على الرب، وبنعمة العلي لا يتزعزع.
تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك، تجعلهم مثل تنور نار في زمان حضورك، الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم، لأنهم نصبوا عليك شراً، تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها، لأنك تجعلهم يقولون: تفوق السهم على أوتارك تلقاء وجوههم، ارتفع يا رب بقوتك، نُرنم وتُنغّم بجبروتك " ( المزمور 21/1 - 3 ).
يقول فخري عطية في كتابه "دراسات في سفر المزامير": " إن المسيح هو المقصود بهذا المزمور" ووافقه كتاب " تأملات في المزامير " لآباء الكنيسة الصادر عن كنيسة مار جرجس باسبورتنج.
وقولهم صحيح، فقد حكى المزمور العشرون عن دعاء المسيح وعن استجابة الله له، ويحكي هذا المزمور ( الواحد والعشرون ) عن فرحه بهذه الاستجابة " يا رب بقوتك يفرح الملِك، وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً... نُرنم وننغّم بجبروتك ".
وينص المزمور أن الله أعطاه ما سأله وتمناه " شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه،.. سألك فأعطيته "، وقد كان المسيح يطلب من الله بشفتيه النجاة من المؤامرة " إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس " ( متى 26/39 )، لقد كان يخاف الموت، ويطلب من الله أن يصرفه عنه، وقد استجاب الله له، كما شهد بولس، وهو يقول عن المسيح: "الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7).
ويذكر المزمور أن الله أعطاه حياة جديدة طويلة إلى قبيل قيام الساعة " حياةً سألَكَ فأعطيتَه، طول الأيام، إلى الدهر، والأبد"، كما وضع عليه إكليل حياة، وهو غير إكليل الشوك الذي وضع على المصلوب، يقول المزمور: "وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة".
ويحكي المزمور عن أعداء المسيح الذين تآمروا عليه وفكروا في " مكيدة لم يستطيعوها " فهم لم يلحقوا الأذى به، فقد فشلت المؤامرة، لأنه رُفع " ارتفع يا رب بقوتك ".
وأما هؤلاء الأعداء: فترجع مكيدتهم عليهم " تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك.. الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم.. تفوق السهام على أوتارك تلقاء وجوههم "، فهل يقول أحد بعد ذا كله بأن المصلوب هو المسيح.
خامساً: المزمور الثاني والعشرونوفيه: " إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي؟ عن كلام زفيري؟ إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوّ لي، وأنتَ القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل، عليك اتكل آباؤنا، اتكلوا فنجيتهم، إليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يَخزَوْا.
أما أنا فدودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، ومحتقرُ الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه، ويُنغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه.
لينقذه، لأنه سُرّ به، لأنك أنت جذبتني من البطن، جعلتني مطمئناً على ثديي أمي، عليك ألقيت من الرحم، من بطن أمي، أنت إلهي، لا تتباعد عني لأن الضيق قريب، لأنه لا معين، أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علىّ أفواههم، كأسد مفترس مزمجر، كالماء انسكبتُ،
انفصلتْ كل عظامي، صار قلبي كالشمع، قد ذاب في وسط أمعائي، يبستْ مثل شَقفَة قوتي، ولصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت تضعني، لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أُحصى كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فّي، يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون" (المزمور 22/1-18).
ويُجمع النصارى على أن هذا المزمور بنوءة عن المسيح، فقد أحالت عليه الأناجيل يقول متى: " ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة " ( متى 27/35 ) ومثله في ( يوحنا 19/24 )، والإحالة إلى هذا المزمور في قوله: " يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون ".
كما أن الرواية التي في المزمور توافق رواية الصلب في صراخ المصلوب: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ( متى 27/46 )، ( مرقس 15/34 ).
ويوافق نص المزمور ما جاء في الأناجيل في بيان حال المصلوب " كان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك، إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده " ( متى 27/39 - 43 ). فهذا يشبه ما جاء في هذا المزمور " محتقر الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي.. وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب، فلينجه".
كما يوافق النص الأناجيلَ كرّة أخرى في قوله: " جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أحصي على عظامي "، فهي تدل على أخذ المصلوب يوم سُمرت يداه ورجلاه على الصليب.
لهذا كله كان إجماع النصارى على أن هذا المزمور نبوءة عن حادثة الصلب، خاصة أن داود لم يمت مصلوباً، فهو إذن يتحدث عن غيره.
والحق أن المزمور نبوءة عن المصلوب، لكنه ليس عيسى، بل عن الخائن يهوذا الأسخريوطي، فنراه وهو جزع، يائس، يصرخ: " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، فالمزمور نبوءة عن المصلوب اليائس الذي يدعو فلا يستجاب له "إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هُدوّ لي.. عليَك اتكل آباؤنا فنجيتَهم، عليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يخزوا. أما أنا فدودة لا إنسان... ".
ويصف المزمور المصلوب بأنه " دودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، محتقَرُ الشعب " فمَن هو هذا اليائس الموصوف بأنه دودة، وأنه عار عند البشر، وأنه محتقر، وأنه لا يستجاب له؟
إنه يهوذا، حيث جعلتْه خستهُ وخيانتهُ كالدودة، وأصبح عاراً على البشر، كلَّ البشر، المسلمين واليهود والنصارى، بل وحتى البوذيين وغيرهم، لأنه خائن، والخيانة خسة وعار عند كل أحد، يحتقره الشعب، ولا يستجيب الله دعاءه.
والعجب لمن يصر على أن النبوءة عن المسيح، إذ كيف يوصف المسيح بالعار، وهو مجد وفخر للبشر؛ بل العار هو يهوذا، ونلحظ أن النص يصفه بالعار ليس فقط عند جلاديه وأعدائه، بل عند البشر جميعاً، في كل أجيالهم، وجميع مِللهم، ولا يمكن أن يكون المسيح كذلك، بل تفخر البشرية أن فيها مثل هذا الرجل العظيم الذي اصطفاه الله برسالته ووحيه.
كما نلحظ أن كلمة "عار" تلحق بالشخص نفسه، لا الصلب الواقع عليه، فهو العار، وهو الدودة، وحاشا للمسيح العظيم أن يكون دودة أو عاراً، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لقد مجد الله المسيح فلم يكن عاراً ، بل كان فخراً وعزاً، وإن تاهت عنه عيون البعض، فرأوا مجده عاراً، ونجاته خزياً ، لقد غفلوا عن النبوءة القائلة: "استجب لي يا إله برّي، في الضيق رحبت لي، تراءف عليّ واسمع صلاتي، يا بني البشر، حتى متى يكون مجدي عاراً؟ حتى متى تحبون الباطل، وتبتغون الكذب؟ سلاه، فاعلموا أن الرب قد ميّز تقيّه، الرب يسمع عندما أدعوه" (المزمور 4/1-3)، فخلاصه عليه السلام هو المجد الذي لم يؤمن به النصارى، واعتبروه عليه السلام لعنة وعاراً، لكنه كذب وباطل، فقد سمع الله دعاء تقيه ومسيحه.
كما لا يقبل بحال أن يوصف المسيح بأنه دودة، والعجب من أولئك الذين يدعون ألوهيته كيف يستسيغون تسميته بدودة، بل الدودة هو الخائن الحقير يهوذا.
وأما وصف المصلوب بأنه " محتقر الشعب" فهو وصف ينطبق على المصلوب وكلمة "الشعب" تشير إلى اليهود وأولئك الذين حضروا الصلب، وكانوا يحتقرون المصلوب.
سادساً: المزمور التاسع والستونوهذا المزمور نبوءة أخرى تتناول حادثة الصلب، وهو نبوءة متحدثة عن المصلوب، فقد اقتبس منه كتاب الأناجيل، ورأوا فيه نبوءة عن المصلوب، تحققت – حسب رأيهم – في المسيح حين صلب، يقول يوحنا: "وكان إناء موضوعاً مملوءاً خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا، وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل" (يوحنا 19/29-30)، أي كملت النبوءات والكتب، ومقصده ما جاء في الفقرة الحادية والعشرين من هذا المزمور، وفيها: " ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ "، فالمزمور نبوءة عن المصلوب بشهادة يوحنا، فمن تراه يكون المصلوب: المسيح البار أم يهوذا الخائن؟
السفر وحده كفيل بالإجابة عن السؤال، وفيه يهتف المصلوب ويصرخ بيأس يرجو رحمة الله الذي لم يستجب له، فيقول: "خلصني يا الله، لأن المياه قد دخلت إلى نفسي، غرقت في حمأة عميقة وليس مقر، دخلت إلى أعماق المياه، والسيل غمرني، تعبت من صراخي، يبس حلقي،كلّت عيناي من انتظار إلهي، أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب، اعتزّ مستهلكيّ أعدائي ظلماً،حينئذ رددت الذي لم أخطفه....".
ويذكرنا المزمور بصراخ المصلوب اليائس "إلهي إلهي لماذا تركتني"، وقد يبس حلقه وكلت عيناه، وما من مجيب، ويعجب المصلوب لحال أولئك الذين أبغضوه وعلقوه بلا سبب، فقد جاء ليدلهم على المسيح فإذا به يؤخذ بدلاً عنه، من غير أن يصنع سبباً واحداً يستحق بغضهم له وصلبهم إياه.
لكنه يعلم أن سبب ما حاق به هو حماقته وذنوبه والعار، عار الخيانة الذي غطاه، فيقول: " يا الله أنت عرفت حماقتي، وذنوبي عنك لم تخف، غطى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي، وغريباً عند بني أمي،... أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي، قدامك جميع مضايقي، العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ" ( المزمور 69/5 - 21 )، فمن هو صاحب الحماقة والذنوب والعار والخزي والخجل، من هو ذاك الذي كسر العار قلبه، إنه ذاك الذي سقوه الخل وهو على الصليب، هل يعقل أن نقول : إنه المسيح؟ لا، إنه يهوذا الخائن.
لكنه لا ييأس فيواصل الصراخ والاستجداء طالباً من الله الخلاص، مستعيناً فقط برحمة الله التي تسع كل شيء، ولكن بلا فائدة "لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيّريك وقعت عليّ، وأبكيت بصوم نفسي، فصار ذلك عاراً عليّ، جعلت لباسي مسحاً، وصرت لهم مثلاً، يتكلم فيّ، الجالسون في الباب وأغاني شرّابي المسكر، أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك، نجني من الطين، فلا أغرق نجني من مبغضيّ، ومن أعماق المياه، لا يغمرني سيل المياه، ولا يبتلعني العمق، ولا تطبق الهاوية عليّ فاها، استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ، ولا تحجب وجهك عن عبدك، لأن لي ضيقاً، استجب لي سريعاً، اقترب إلى نفسي، فكها، بسبب أعدائي افدني" (المزمور 69/ 9-18). 


وتأتيه نتيجة دعائه وخيانته، إذ يقول السفر: "لتصر مائدتهم قدامَهم فخاً، وللآمنين شركاً، لتظلم عيونهم عن البصر، وقلقل متونهم دائماً، صبّ عليهم سخطك، وليدركهم حمو غضبك‏، لتصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكن، لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون، اجعل إثماً على إثمهم، ولا يدخلوا في برِّك، ليمحَوا من سفر الأحياء، ومع الصديقين لا يكتبوا" (المزمور 69/22-28).
فمن تراه يكون هذا الهالك الذي صارت مائدته فخاً وشركاً للآمنين، لكن عميت عيونهم عن البصر، فلم تبصر الصديق، وهو ينجو، لقد باء الخائن بالإثم، وأصبحت داره خراباً، ومحي اسمه من سفر الأحياء، فمات ولم يستجب له، كما حذف من قائمة الصديقين، فكتب مع الأشرار الهالكين، فمن تراه يكون؟ إنه يستحيل أن يكون هو المسيح.
ثم يعود المزمور ليحدثنا عن المسيح الذي نجاه الله، فيقول عن نفسه: " أما أنا فمسكين وكئيب، خلاصك يا الله فليرفعني، اسبح اسم الله بتسبيح، وأعظمه بحمد، فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف، يرى ذلك الودعاء، فيفرحون، وتحيا قلوبكم يا طالبي الله، لأن الرب سامع للمساكين، ولا يحتقر أسراه" (المزمور 69/ 29-33)، لقد سمع الله دعاءه، وخلاص الله رفعه ونجاه، ففرح بنجاته المؤمنون، فالرب يسمع دعاء المساكين، لذا فهو يستحق المزيد من الحمد والتسبيح.
وقد يشكل على القارئ الكريم قوله: " أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك.. استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ"، فيرى خطأً أن هذا السائل المستغيث هو المسيح، وهذا فهم خاطئ، إذ السائل هنا يستغيث مستشفعاً بما سبق من صلوات له زمن صحبته للمسيح، ويشفعها بطلب الرحمات من الله الرحيم كثير الرحمات، وهو الحبل الوحيد الذي يتشبث به الغريق ، ولو كان خائناً فاجراً.
أما المسيح عليه الصلاة والسلام فكان في دعائه المستجاب يستشفع بكماله وصلاحه وعبادته لله، ومنه قوله: "اقض لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيّ" (المزمور 7/8)، ومثله في المزمور الواحد والأربعين " أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 12).
وقد أوضحته المزامير في مواضع، منها قوله: "أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/13)، وفي المزمور الواحد والتسعين "أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده " (المزمور 91/14)، وكذا في المزمور العشرين اعتمد المسيح واتكل على صالح عمله وبره لله " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك" (المزمور 20/3).
سابعاً: المزمور الخامس والثلاثونوهذا المزمور شاهد آخر يتحدث عن المسيح، فقد اقتبس منه يوحنا في إنجيله، حين قال: "وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب" (يوحنا 15/24-25)، وهذا الاقتباس من الفقرة السابعة من المزمور ، وفيها: " لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم "، فهو متحدث عن المسيح باتفاق النصارى، وبشهادة يوحنا.
فهل كان المزمور نبوءة عن المسيح المصلوب، أم كان بشارة بنجاته عليه الصلاة والسلام؟
يقول المزمور متحدثاً عن دعاء مؤمن محتاج إلى رعاية ربه وحمايته له من أعدائه، فيقول: "خاصِمْ يا رب مخاصِمي، قاتِلْ مقاتلي، أمسك مجناً وترساً، وانهض إلى معونتي، وأشرِع رمحاً، وصُد تلقاء مطارديّ، قل لنفسي: خلاصكِ أنا‏" (المزمور 35/1-3).
ويطلب ذلكم الداعي المؤمن من ربه أن يقع عدوه في الشبكة التي نصبها، ويطلب من الله أن يؤيده بالملائكة، فيقول: " ليخز وليخجل الذين يطلبون نفسي، ليرتد إلى الوراء، ويخجل المتفكرون بإساءتي، ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرُهم، ليكن طريقهم ظلاماً وزلقاً، وملاكُ الرب طاردهم، لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم، بلا سبب حفروا لنفسي، لتأته التهلكة وهو لا يعلم، ولتنشب به الشبكة التي أخفاها، وفي التهلكة نفسها ليقع " (المزمور 35/4 -8 )، لقد طلب من الله طلبة في شأن عدوه، طلب منه أن يقتله بشبكته التي نصبها، أي في ذات المؤامرة التي سعى فيها، فهل استجاب الله لوليه أم خيبه؟
السفر يجيب بوضوح أن الله استجاب له ، ويبتهج بخلاص المسيح ونجاته " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه؟ والفقير والبائس من سالبه؟ شهود زور يقومون، وعما لم أعلم يسألونني، يجازونني عن الخير شراً، ثكلاً لنفسي، أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13).
ويعود المزمور للحديث عن أعدائه الذين عادوا بالخيبة، فيقول:" لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً، ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب، لأنهم لا يتكلمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يفتكرون بكلام مكر، فغروا عليّ أفواههم، قالوا: هه هه، قد رأت أعيننا، قد رأيتَ يا ربُّ، لا تسكت يا سيد، لا تبتعد عني، استيقظ، وانتبه إلى حكمي يا الهي وسيدي، إلى دعواي، اقض لي حسب عدلك يا رب.
إلهي فلا يشمتوا بي، لا يقولوا في قلوبهم: هه شهوتنا، لا يقولوا: قد ابتلعناه، ليخز وليخجل معاً الفرحون بمصيبتي، ليلبس الخزي والخجل المتعظمون عليّ، ليهتف ويفرح المبتغون حقي، وليقولوا دائماً: ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده، ولساني يلهج بعدلِك، اليوم كله بحمدك" (المزمور 35/19-28)، لقد كان دعاء حاراً من العبد المؤمن ، وهو يطلب من الله العادل أن يخزي أعداءه الذين أبغضوه بلا سبب.
وقد استجاب الله له " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكينَ ممن هو أقوى منه؟ والفقيرَ والبائس من سالبه؟ ...أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13)، لقد شفع له عند ربه صلاته وصيامه ولباسه للمسوح عبادة لله وتذللاً.
ثامناً : المزمور الواحد والأربعون : وهذا المزمور أحد الأسفار التي تحدثت عن المسيح، والذي اقتبس منه يوحنا في ثنايا حديثه عن يهوذا فقال متنبئاً بخيانته: "إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه، لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم، لكن ليتم الكتاب، الذي يأكل معي الخبز رفع عليّ عقبه" (يوحنا 13/17-18)، فقد اقتبس من المزمور الواحد والأربعين الفقرة التاسعة وفيها: "رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه"، فالمزمور نبوءة عن المسيح بدليل قول المسيح: "لكن ليتم الكتاب".
ودعونا نتأمل المزمور من أوله، حيث يتنبأ المزمور بنجاة المسيح في يوم ضيقه، فإن الرب حفظه ولم يسلمه لمرام أعدائه، فيقول: "طوبى للذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب، الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض، ولا يسلمه إلى مرام أعدائه، الرب يعضده وهو على فراش الضعف" (المزمور 41/1-3).
ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح، وعن الخائن الذي وثق به، فيقول: "أعدائي يتقاولون عليّ بشر، متى يموت ويبيد اسمه، وإن دخل ليراني يتكلم بالكذب، قلبه يجمع لنفسه إثماً، يخرج في الخارج يتكلم، كل مبغضيّ يتناجون معاً عليّ، عليّ تفكروا بأذيتي، يقولون: أمر رديء قد انسكب عليه، حيث اضطجع لا يعود يقوم، أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به، آكل خبزي، رفع عليّ عقبه" (المزمور 41/5-9)، لقد كان تلميذه يهوذا، رجل سلامته أحد المتآمرين عليه.
لكن كمال المسيح وحسن طاعته لله نجياه من كيد عدوه، وأبطل مؤامرة يهوذا، فيقول المزمور: " أما أنت يا رب فارحمني، وأقمني فأجازيهم، بهذا علمت أنك سررت بي، إنه لم يهتف عليّ عدوّي، أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 10-13) لقد سُر به ربه، ولم يهتف عليه عدوه، بل بكماله وصلاحه كتبت له النجاة.
تاسعاً : المزمور الرابع والثلاثونوهذا المزمور أيضاً متحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أحال عليه كتاب الأناجيل، واعتبروه نبوءة عن المسيح، ففي الفقرة العشرين منه يقول: " يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر"، وهي العبارة التي اقتبسها يوحنا، واعتبرها نبوءة عن المسيح، فقال: "لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل: عظم منه لا يكسر" (يوحنا 19/36).
فبماذا تنبأ المزمور، هل كان يتحدث عن المسيح المصلوب الذي لم يستجب الله دعاءه، أم عن المسيح الناجي الذي لا يكسر منه عظم، فيما تحيق المؤامرة بأعدائه الأشرار، يقول المزمور متحدثاً عن دعاء المسيح الطويل في البستان، وعن استجابة الله له، وعن المدد الذي أمده من الملائكة: "طلبت إلى الرب فاستجاب لي، ومن كل مخاوفي أنقذني، نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل، هذا المسكين صرخ، والرب استمعه، ومن كل ضيقاته خلصه، ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه، اتقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عوز لمتقيه، الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير" (المزمور 34/1-10).
ويمضي السفر مؤكداً استجابة الله للمسيح، وسلامة جسده، وينتقل للحديث عن أعدائه الذين يصب عليهم غضبه، فيقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر، الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون، الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22)، فلقد مات الشرير بشره، فيما سلمت جميع عظام المسيح من أن تكسر، وهو ما لم يتحقق للمصلوب الذي كسرت المسامير - ولا ريب - بعض عظام يديه ورجليه " ثقبوا يدي ورجلي " (المزمور 22/16)، فالمسيح الناجي هو فقط من حقق هذه النبوءة .
لقد أنقذ الله المسيح من كل الشدائد، لأنه اتكل عليه "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر.. وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22).
وعاقب الله مبغضي المسيح، وقطع من الأرض ذكرهم، وأماتهم بشرِّهم الذي صنعوه " وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم..الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون" (المزمور 34/16-21).
عاشراً : المزمور الواحد والتسعونويتقدم الشيطان إلى المسيح يختبره ويذكره بنبوءة المزامير عنه، "وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: إنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك" (متى 4/6-7)، فالمسيح هو الذي يوصي فيه اللهُ ملائكتَه، فيحملونه ولا يمسه سوء، حتى الحجر لا يصيبه، لأن الملائكة حملته
وهذه النبوءة التي أقرها المسيح ووافق عليها، اقتبسها الشيطان من المزمور الواحد والتسعين، من الفقرة الحادية عشرة، حيث جاء فيها: " لأنه يوصي ملائكته بك، ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك "، فهي نبوءة عن المسيح، فمتى تحققت هذه النبوءة؟
فالمزمور يتحدث عن المسيح المتكِل على الله والذي ينجيه من مؤامرة الصياد، ويستجيب له، ويرفعه للسماء، من غير أن يمسه شر أو أذى، وقبل أن يتمكن أعداؤه منه تحمله الملائكة، ويعطى حياة طويلة، بدلاً من الضيق، يقول المزمور: " إلهي فاتكل عليه، لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن الوباء الخطر، بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي، ترس ومجن حقه، لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير...
لأنك قلت: يا رب، أنت ملجأي، جعلتُ العلا مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك، على الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس، لأنه تعلق بي أنجيه، أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه، وأريه خلاصي " (المزمور 91/2 - 16)، وفي المزمور السابع والخمسين " أصرخ إلى الله العلي، إلى الله المحامي عني، يرسل من السماء ويخلصني، عيّر الذي يتهممني... هيأوا شبكة لخطواتي، انحنت نفسي، حفروا قدامي حفرة سقطوا في وسطها " (المزمور 57/2-6).
وهكذا فالمزمور الواحد والتسعون نبوءة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، واضحة في استجابة الله للمسيح، ورفعه للسماء على يد الملائكة قبل أن تصيبه يد أعدائه بأدنى شر، فلم يضرب ولم يبصق في وجهه، ولم يصلب، ولم يمت، عليه صلوات الله وسلامه.
حادي عشر : المزمور التاسع بعد المائة ، وفيه: " يا إله تسبيحي، لا تسكت ؛ لأنه قد انفتح علّى فم الشرير، وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بغض، أحاطوا بي، وقاتلوني بلا سبب. بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلوة. وضعوا علّى شراً بدل خير، وبُغضاً بدل حبي.
فأقم أنت عليه شريراً، وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنباً، وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر. ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة. لِيَتِهْ بنَوُه تَيَهَاناً ويستعطوا. ويلتمسوا خبزاً من خِربهم. ليصطد المرابي كل ما له، ولينهب الغرباء تعبه. لا يكن له باسط رحمة، ولا يكن مُتَرَأّفُ على يتاماه.
لتنقرض ذريته. في الجيل القادم ليمح اسمهم. ليذكر إثم آبائه لدى الرب، ولا تمح خطية أمه. لتكن أمام الرب دائماً. وليقرض من الأرض ذِكرهم. من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة، بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً، والمنسحق القلب ليميته.
وأحب اللعنة، فأتته، ولم يسر بالبركة، فتباعدت عنه. ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً. هذه أجرة مبغضي من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي.
أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك. لأن رحمتك طيبة نجني، فإني فقير، ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي. كظل عند ميله ذهبت. انتفضت كجرادة. ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل عن سمن. وأنا صرت عاراً عندهم. ينظرون إليّ وينغضون رؤوسهم.
أعني يا رب، إلهي. خلصني حسب رحمتك. وليعلموا أن هذه هي يدك، أنت يا رب فعلت هذا. أما هم فيلعنون. وأما أنت فتبارك. قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح. ليلبس خصمائي خجلاً وليتعطفوا بخزيهم كالرداء.
أحمد الرب جداً بفمي، وفي وسط كثيرين أسبحه، لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلصه من القاضين على نفسه" ( المزمور 109/1 - 31 )
وهذا المزمور أيضاً يراه النصارى على علاقة بقصة الصلب، وأن المقصود في بعضه يهوذا، وهو قوله: " ووظيفته ليأخذها آخر، ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة.. ويلتمسوا خبزاً من خربهم " وقد أحال عليه كاتب "أعمال الرسل" وهو يتحدث على لسان بطرس حين قال متحدثاً عن يهوذا: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن، وليأخذ وظيفته آخر " ( أعمال 1/15 - 26 ).
وقد انتخب الحواريون بدلاً من يهوذا تنفيذاً لهذا الأمر يوسف ومتياس، وأقرعوا بينهما، فوقعت القرعة علي متياس، فحسبوه مكملاً للأحد عشر رسولاً. ( انظر أعمال 1/23 - 26 ).
إذاً فالنص في هذا المزمور متحدث عن يهوذا ولا ريب، وهذا صحيح، فهو يتحدث عن محاكمته " وإذا حوكم فليخرج مذنباً "، فمتى حوكم يهوذا إذا لم يكن هو المصلوب؟ والنص يتحدث عن محاكمته، وعن نتيجة محاكمته " لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر ".
كما يتحدث المزمور عن وقوفه على الصليب، وعن يمينه شيطان، ذاك الذي كان يستهزأ به، (لوقا 23/39-43)، فمتى وقف شيطان عن يمين يهوذا، ومتى حوكم؟ إن لم يكن ذلك في تلك الواقعة التي تجلى فيها غضب الله عليه.
كما يتحدث المزمور عن ثوب اللعنة الذي لبسه يهوذا على الصليب " ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً، هذه أجرة مبغضيّ من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي"، لقد كانت اللعنة أجرته على عمله، فقد علق على الصليب، وكل معلق ملعون، كما في سفر التثنية "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل، وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله" (التثنية 21/22-23).
ونص المزمور - كما رأينا - يتحدث في شطرين على لسان المسيح.
ففي الشطر الأول: يتحدث عن الأشرار الذين قاتلوه بلا سبب، ووضعوا عليه الشر بدل الخير.
وفي الشطر الثاني: يستمطر الداعي نفسه اللعنات على هذا الشرير، ويسأل الله الخلاص حسب رحمته " أعِني يا رب، إلهي، خلصني حسب رحمتك.. " ويفرح المسيح لخلاصه " لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلصه من القاضين على نفسه".
ثاني عشر: المزمور الثامن عشر بعد المائةوكذا يؤمن النصارى أن المزمور الثامن عشر بعد المائة نبوءة عن المسيح عليه السلام، إذ يتحدث المزمور في آخره عن الحجر الذي رفضه البناؤون، فيقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا... مبارك الآتي باسم الرب"، وقد اعتبره بطرس نبوءة عن المسيح المصلوب متناسياً ما جاء في مقدمة المزمور عن هذا الحجر العظيم، يقول بطرس: "فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً، هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية " (أعمال 4/10-11)، وقد أخطأ بطرس حين ظن أن المزمور نبوءة عن المصلوب، وعذره في ذلك أنه عامي عديم العلم، كما وصفه أولئك الذين سمعوا منه هذه المقالة "فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميّان، تعجبوا " (أعمال 4/13)، فهذا عذره ندلي به قبل أن نقلّب النبوءة باحثين عن الحقيقة.
يقول المزمور متحدثاً عن الحجر الذي رفضه البناؤون: "من الضيق دعوت الرب فأجابني، من الرحب، الرب لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان، الرب لي بين معينيّ، وأنا سأَرى بأعدائي، الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء" (المزمور 118/5-9)، لقد توكل المسيح على الرب، الذي أجابه من الضيق وأعانه.
ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح ومؤامرتهم عليه، ويترنم بانطفاء نارهم وإبادتهم، وفشل مؤامرتهم، فيقول: " كل الأمم أحاطوا بي، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي واكتنفوني، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي مثل النحل، انطفأوا كنار الشوك، باسم الرب أبيدهم، دَحَرَتني دحوراً لأسقط، أما الرب فعضدني، قوتي وترنمي الرب، وقد صار لي خلاصاً" (المزمور 118/10-15).
لقد خلصه الله من الموت ولم يسلمه إليه، لذا فهو يبتهج ويفرح باستجابة الله له وبخلاصه من الموت " صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين، يمين الرب صانعة ببأس، يمين الرب مرتفعة، يمين الرب صانعة ببأس، لا أموت، بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب، تأديباً أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني، افتحوا لي أبواب البر، ادخل فيها، واحمد الرب، هذا الباب للرب، الصديقون يدخلون فيه، أحمدك لأنك استجبت لي، وصرت لي خلاصاً، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلّص، آه يا رب أنقذ، مبارك الآتي باسم الرب" (المزمور 118/15-26)، فالمزمور كما رأيتَ شهادة أخرى بنجاة المسيح وخلاصه من يد أعدائه.
وذات الصورة تتكرر في سائر إصحاحات سفر المزامير الذي يعتبره القمص سرجيوس سفر مسيّا الخاص، ونختم منه بالمزمور الأربعين بعد المائة، وفيه: "أنقذني يا رب من أهل الشر، من رجل الظلم احفظني. الذين يتفكرون بشرور في قلوبهم، اليوم كله يجتمعون للقتال، سنّوا ألسنتهم كحية حمة الأفعوان تحت شفاههم. سلاه. احفظني يا رب من يدي الشرير، من رجل الظلم أنقذني، الذين تفكروا في تعثير خطواتي. أخفى لي المستكبرون فخاً وحبالاً، مدوا شبكة بجانب الطريق، وضعوا لي أشراكاً.سلاه، قلت للرب: أنت إلهي، أصغ يا رب إلى صوت تضرعاتي... لا تعط يا رب شهوات الشرير، لا تنجح مقاصده" (المزمور 140/1-8).
خلاصة نبوءات المزاميرويخلص الأستاذ العلامة منصور حسين في دراسته الرائعة إلى نتيجة واضحة بينة، ويسطرها في قوله: " مِن جماع ما تقدم لا نخلص إلا بأن المزامير تنبأت بحق بأن الله مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، يرفعه من أبواب الموت، يرفعه فوق القائمين عليه، يرسل من العُلا فيأخذه.
أما يهوذا الإسخريوطي الذي حفر له هذه الحفرة، وأتى على رأس الجمع من جنود وخدام ليقبضوا عليه، على المسيح سيده، فإنه في الحفرة نفسها يقع، وبعمل يديه يعلق، رجع تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط ظُلمه، صار عاراً عند البشر، فقبض عليه هو بدلاً من المسيح، وحوكم هو، وصلب بدلاً منه.
وهكذا تستقيم النبوءة في المزامير، وهكذا تتجلى النبوءة في المزامير، في أسطع وأروع وأسمى ما تكون النبوءة، ليست آية نحرفها، أو كلمة نُحوّر معناها، بل صورة كاملة، عشرات الآيات، عشرات المزامير، كلها تنطق بصورة واحدة متكاملة، تتكرر كثيراً، ولكن أبداً لا تتغير.
هذه الحقيقة هي تلك التي نطق بها القرآن، واعتقدها المسلمون... ولمن يريد أن يزيد يقيناً، فها هي المزامير كلها في الكتاب المقدس، الذي يؤمن به المسيحيون، ويتداولونه، وإليها فليرجع، ولن يزيده هذا إلا يقيناً وتقديراً لهذه الحقيقة التي انتهينا إليها.. ".
وإذا أراد المزيد من اليقين فليقرأ ما جاء في سفر الأمثال : " الأشرار يكونون كفارة لخطايا الأبرار " ( الأمثال 21/18)، وليتأمل بمزيد عناية قوله: " بر الكامل يقوم طريقه، أما الشرير فيسقط بشره، بر المستقيمين ينجيهم، وأما الغادرون فيؤخذون بفسادهم، الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه " ( الأمثال 11/5 - 8 ).
ولا يفوتنا أن نذكر أن الاحتجاج بنبوءات المزامير على نجاة المسيح قديم، بل يرجع للمسيح - إن صح ما في إنجيل برنابا -، فقد جاء فيه أن المسيح قال: " إن واحداً منكم سيسلمني، فأباع كالخروف، ولكن ويل له، لأنه سيتم ما قاله داود أبونا عنه، أنه سيسقط في الهوة التي أعدها للآخرين" ( برنابا 213/24 - 26 ).
وإذا قلنا: إن المزامير بشرت بنجاته، فللنصارى أن يقولوا: كيف لم يعرف المسيح ذلك من العهد القديم؛ لم قال عن نفسه بأنه سيصلب كما في الأناجيل؟
والإجابة عن هذا التساؤل لا تلزمنا نحن المسلمين الذين لا نعتد بما جاء في هذه الكتب، إلا ما قام على صدقه وتوثيقه دليل من ديننا.
ثم القصة هي امتحان للمسيح عليه السلام، كما كان الأمر بالذبح امتحاناً لإبراهيم وابنه الوحيد، ولو عرف المسيح نتيجة الامتحان مقدماً لما كان له أي معنى، كما لو عرفها إبراهيم، فلذلك خفيت عليه، وليس لقصور فهمه أو إدراكه، حاشاه، ولكن لتتحقق إرادة الله بامتحانه، ونجاحه في الامتحان.
ثم لا يمكن القطع بأن المسيح لم يعرف المعنى الصحيح الذي تدل عليه النبوءات، بل قد يكون المسيح عرف ذلك، فلجأ إلى الله يتضرع إليه ويسأله صرف هذه الكأس، لأنه عرف أن الله يستجيب دعاءه وتضرعه، بينما لو وافقنا الرواية الإنجيلية بأن المسيح علم أنه سيصلب ثم صلب، فما فائدة تضرعه ودعائه، ولم كان جزعه يأسه وصراخه على الصليب "لماذا تركتني"؟
كما ثمة أمر آخر يجدر التنبه له، وهو أن فهم النبوءات لا يعني يقيناً معرفة الساعة، وتحديد اليوم الذي سيسعى أعداؤه فيه للقبض عليه.
هل ما جاء في سفر إشعيا نبوءة عن صلب المسيح؟
لكن النصارى يرون أن ثمة نبوءة في غير المزامير قد وردت في صلب المسيح، ألا وهي ما جاء في إشعيا 52 و 53 وفيه: " هو ذا عبدي يعقل، ويتعالى، ويرتقي ويتسامى جداً، كما اندهش منه كثيرون، كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم، هكذا ينضح أمماً كثيرين، من أجله يسد ملوكُُ أفواههم، لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه.
من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب، نبت قدامه كفرخ، وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به.
لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصلوباً، مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا، كلنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه.
من الضغطة، ومن الدينونة أخذ، وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته، على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش.
أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنحج، من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها، لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء، يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمةٍ، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين " ( إشعيا 52/13 - 53/12 ).
ويربط النصارى بينه وبين ما جاء في مرقس " فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة " ( مرقس 15/28)، ومقصوده كما لا يخفى ما جاء في إشعيا " سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمة " ومثله في أعمال الرسل ( أعمال 8/22 - 23 ).
والنص ولا ريب قد تعرض للكثير من التلاعب والتحوير، وتجزم بهذا التلاعب عندما تلحظ غموض عباراته، وحين تقارن نص إشعيا مع ما جاء في أعمال الرسل، وهو ينقل عنه، وفيه " وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه، فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه، هكذا لم يفتح فاه، في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض " ( أعمال 8/32- 33 )، فثمة فروق بين ما جاء في إشعياء وما نقله عنه أعمال الرسل..
فالنعجة في سفر إشعيا تحولت في أعمال الرسل إلى خروف، و "من الضغطة، ومن الدينونة أخذ" أضحت "في تواضعه انتزع قضاؤه" ، لكن الفارق الأكبر بين السفرين نجده في قول إشعيا "وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء"، فيما يقول سفر الأعمال " وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض"، وهذه الفروق تدلنا على مدى الحرية التي تعامل بها القديسون أو المترجمون للنصوص الكتابية.
لذا حق للمحققين أن يروا ما ورد في إشعيا نصاً حُور لينطبق على المسيح، ودليل ذلك أن المسيح والتلاميذ والحواريين لم يفهموا ابتداءً أن ما جاء في إشعيا نبوءة عن المسيح، فالمسيح لم يشر إلى هذه النبوءة، ولا تلاميذه.
فها هو فيلبس يقرأ النص، ولم يفهم منه أنه نبوءة عن المسيح، حتى أطلعه عليه خصي حبشي وثني، كان وزيراً لملك كنداكة ملك الحبشة، وبعد هذه القصة تنصر الرجل، وعمّده فيلبس، يقول لوقا: " فبادر إليه فيلبس وسمعه يقرأ النبي إشعياء فقال (أي الخصي): ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟ فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد، وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه.
وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض.
فأجاب الخصي فيلبس: وقال أطلب إليك: عن من يقول النبي هذا؟ عن نفسه أم عن واحد آخر؟ ففتح فيلبس فاه، وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع...فعمده، ولما صعدا في الماء خطف روح الرب فيلبس، فلم يبصره الخصي أيضاً، وذهب في طريقه فرحاً، وأما فيلبس فوجد في أشدود" ( أعمال 8/26 -40 )، فالخصي هو الذي أوحى إلى فليبس ثم النصارى بفكرة تنبؤ نص إشعيا بالمسيح.
والمسلمون لا يرون في هذا النص أي نبوءة عن المسيح، ويستغرب المسلمون ويستنكرون من الربط بين نص إشعيا وقصة الصلب في الأناجيل، فنص إشعيا يتحدث وفي أكثر من موضع عن عبد، فيما يقول النصارى بألوهية المسيح، فكيف يجمعون بين عبوديته لله وألوهيته في وقت واحد.
وهذا العبد قبيح في منظره، مخذول محتقر لا يعتد به، فهو ليس المسيح على أي حال " هو ذا عبدي... كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم.. لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستّر عنه وجو هنا، محتقر فلم نعتد به"، أفهذه صورة المسيح عندهم؟.
والنص أيضاً يتحدث عن الذي " لم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه ".
بينما المسيح تكلم مراراً وتكراراً، فقد تكلم طويلاً في البستان، وهو يناجي، طالباً من الله أن يعبر عنه هذه الكأس...، ثم نطق فقال لبيلاطس أثناء محاكمته: " أنت تقول: إني ملك، لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو في الحق يسمع صوتي " (يوحنا 18/37 )، وكان قد قال له قبل: " مملكتي ليست في هذا العالم، لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هذا " ( يوحنا 18/36 ).
كما تكلم في المحاكمة لما لطمه أحد الخدم فأجابه المسيح: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني ؟ " ( يوحنا 18/22 ).
فإن أصر النصارى بعد ذلك على أن النبوءة تنطبق على المسيح، فقد قالوا إذاً بأن المسيح تكلم وهو مغلق الفم !!!
والنص متحدث عن صاحب نسل وولد، فيقول: " يرى نسلاً تطول أيامه "، وقد سر الرب بعذابه " وأما الرب فسر بأن يسحجه بالحزن "، فهل يسَر الله لأحزان عبده البار، المسيح عليه الصلاة والسلام.
كما يذكر نص إشعيا شجاعة وتماسكاً لا تتناسب وصراخ المصلوب، وجزعه، وقنوطه، فالمصلوب لم يظهر كشاة أمام جازيها صامتة، "وهكذا لم يفتح فاه ".
ويرى الأستاذ محمد الأفندي أن لا علاقة بين هذا الإصحاح في إشعيا، وبين حادثة الصلب، فالإصحاح يتحدث عن قصة بني إسرائيل، وذلهم في بابل بسبب معاصيهم ومعاصي سلفهم، فحاق بهم عقوبة الله التي عمّت صالحيهم وفجارهم، ويوضح ذلك في أن قوله: " هو ذا عبدي.. كما اندهش منك كثيرون كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم " فالمقصود بالعبد شعب إسرائيل، فقد عُهد في التوراة إطلاق لفظ الفرد، والمراد الشعب كما في إشعيا: "يقول الرب، خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل..... وإذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل، مخلصك، جعلت مصر فديتك " (إشعيا 43/1 - 3 )، ومثله في ( إشعيا 41/8 )، والمقصود من ذلك كله شعب إسرائيل.
فيصف إشعيا 52 و 53 ويتنبأ عن غربة بني إسرائيل وذلتهم، ثم يتحدث عن عودة أبنائهم من أرض السبي "نبت قدامَه كفرخ، وكعرق في أرض يابسة " فقد عادوا للأرض المقدسة، ونبتوا فيها، من جديد، كما في سفر النبي إرمياء "وأجعل عيني عليهم للخير، وأرجعهم إلى هذه الأرض، وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم، ولا أقلعهم" (إرمياء 24/6)، وقوله: "وأفرح بهم لأحسن إليهم، وأغرسهم في هذه الأرض بالأمانة بكل قلبي وبكل نفسي" (إرمياء 32/41). (وانظر إرمياء 31/27-28).
وقد تغيرت صورتهم بسبب الذل فكان الشعب " محتقر مخذول.. الرب وضع عليه إثم جميعنا " ويفسره قول إرميا وقد شاهد الأسر البابلي: " آباؤنا أخطؤوا، وليسوا بموجودين، ونحن نحمل آثامهم، عبيد حكموا علينا، ليس من يخلص من أيديهم، جلودنا اسودت من جري نيران الجوع " (المراثي 5/7-10).
وقوله: " ظلم أما هو فتذلل " كقوله " ثم ظلمه آشور بلا سبب " ( إشعيا 52/4 )، وكقوله: "إن بني إسرائيل وبني يهوذا معاً مظلومون " ( إرميا 50/33 ).
وأما قوله: " كشاة تساق إلى الذبح.... "فهو حديث عن ملك بابل، وقد ساق بني إسرائيل، كما تساق الشياه إلى الذبح، كما في قوله: " أنزلهم كخراف للذبح، وككباش مع أعتدة " ( إرميا 51/40 ) فمات أكثرهم جوعاً.
وقوله: " وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته " أي أن دفنهم في بابل كان مع الوثنيين، ولا يمكن حمله على المسيح المدفون وحده في بستان، في قبر جديد، لم يدفن فيه معه لا شرير ولا غني.
"فسَّر أن يسحقه بالحزن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه" وفي النسخة الكاثوليكية يتضح المعنى أكثر: "والرب رضي أن يسحقه بالعاهات، فإنه إذا جعل نفسه ذبيحة إثم يرى ذرية، وتطول أيامه" ، فهو إشارة لرجوعهم إلى وطنهم، وتعايشهم وتوالدهم في فلسطين بعد السبي وآلامه وعاهاته وبلاياه.
وقوله : " على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش" حديث عن طهر أولئك الذين يعودون من السبي "يقول الرب: لأني أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد" (إرمياء 31/34)، كما قال عنهم: "وأرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول، وأطهرهم من كل إثمهم الذي أخطؤوا به إليّ، وأغفر كل ذنوبهم التي أخطؤوا بها إليّ والتي عصوا بها عليّ" (إرمياء 33/7-8).
وأما قوله: " عبدي البار بمعرفته يبرر كثيرون، وآثامهم هو يحملها " يتحدث كيف شمل البؤس بررة بني إسرائيل وعصاتهم، كما قال الله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة  (الأنفال : 125) وإكراماً لهؤلاء البررة من بني إسرائيل، طهرهم الله من ذنبهم، ورفع عنهم هذه العقوبة، كما في إرميا: " في تلك الأيام يطلب إثم إسرائيل فلا يكون، وخطية يهوذا فلا توجد، لأني أغفر لمن أبقيه " (إرميا 50/20)، فقد حملوا خطيئة آبائهم، ثم غفرت ذنوبهم.
وقوله: " أحصي مع أثمة " يحكى عن وجود بني إسرائيل مع الوثنيين في بابل، ولا يصح أن يقال: الأثمة هما اللصان، إذ قد وعد أحدهما الفردوس، فكيف يوصف بعد ذلك بالآثم ؟!
وهكذا فالإصحاح يتحدث عن شعب إسرائيل، وسبيه، وذلته، ثم نجاته. وهذا هو مفهوم النص عند اليهود وهم أصحاب الكتاب الأصليين.